تاريخ التصوف الاسلامي

تاريخ التصوف الاسلامي

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

يقول ابن خلدون في مقدمته : أن علم التصوف من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، شأنه شأن بقية علوم الدين، كعلم الأصول، والمصطلح وغيره من حيث التدوين والتفصيل، والتبويب والتقنين، أما من حيث المادة فهو حقيقة إسلامية أخلاقية تعبدية  «وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عن سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى،والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها،والزهد فيما يُقبل عليه الجمهور من لذة ومال والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف،فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة». اهـــ

ويقول الشيخ احمد زروق في قواعده: “وقد حُدّ التصوف،ورُسم ،وفُسِّر بوجوه تبلغ نحو الألفين. مرجعها كله لصدق التوجه إلى الله تعالى….والاختلاف في الحقيقة الواحدة إن كثر ذل على بُعد ادراك جملتها …ومن له نصيب من صدق التوجه،له نصيب من التصوف…ولا يلزم من اختلاف المسالك اختلاف المقصد…والتصوف علم قصد به اصلاح القلوب وفاراد الله مما سواه…”اهــ.

وقد ذهب جمهور المؤلفين في التصوف الى ان كلمتي ” تصوف وصوفي” من الكلمات المستحدثة في الملة الاسلامية .يقول القشيري في الرسالة: » اعلموا – رحمكم الله تعالى – أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسمَّ أفضالهم في عصرهم بتسمية عَلَم سوى صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا فضيلة فوقها، فقيل لهم: الصحابة. ولما أدركهم أهل العصر الثاني سمي من صحب الصحابة التابعين، ورأوا ذلك أشرف سمة. ثم قيل لمن بعدهم: أتباع التابعين، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين: الزهاد والعباد، ثم ظهرت البدع، وحصل التداعي بين الفرق فكل فريق ادعوا أن فيهم زاهداً، فانفرد أهل السنة المراعون أنفاسهم مع الله تعالى الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة« .

والتلقيب بالصوفي (مفردا) ظهر في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري وسمي به جابر بن حيان الكوفي صاحب الكيمياء الذي كان يدعو الى مذهب خاص في الزهد ،وبعده ابو هاشم الصوفي الكوفي ايضا فقد كان يتخذ من الصوف جلبابا طويلا يديم لبسه حتى نسب اليه فسماه الامام الحسن البصري “الصوفي” اما كلمة الصوفية ” بالجمع” فظهرت حوالي سنة 199هــ.

أما أول زاوية او مدرسة عرفت في التصوف فقد اشارت المصادر التاريخية الى شخصيتن صوفيتين نسب الى كل منهما بناء اول دُوَيرة للصوفية :الاول عبد الواحد بن زيد وهو من مشاهير تلامذة الامام الحسن البصري بناها بالبصرة . اما الثاني فهو ابو هشام الصوفي وهو كان كذلك من تلامذة الحسن البصري  بناها في مدينة الرملة في فلسطين ويبدوا،أن هناك عددا من النساك والزهاد والعباد كانوا يأوون  الى زاوية ابي هشام  ويمارسون فيها اوردهم.

اما بالنسبة لمصطلح الصوفي فقد نسب الى (الصفاء والصف والصوف) وقد ناقش الشيخ الكلابادي في كتابه( التعرف لمذهب  اهل التصوف) هذه الاشتقاقات والاغلب نسبة التصوف الى لبس الصوف  ككلمة “الحواريين” اتباع عيسى عليه السلام و(التحوير ) في اللغة التبييض فنسبهم الحق تعالى الى ظاهر لبسهم ونسبته كذلك الى الصفا ،أي صفاء القلب وخلوه من السوى قال  أبو الفتح البستي:

تنازع الناس في الصوفي واختلفوا=   وظنه البعض مشتقاً من الصوف
ولست أمنح هذا الاسم غيرَ فتىً=  صفا فصوفي حتى سُمي الصوفي


وعلى كل فإن كنت صور ة التصوف هو لباس الصوف فروحه هو ما اجملها الشيخ عبد الرحمن السلمي في “مقدمة في التصوف” من الزهد في الدنيا والاشتغال بالذكر والعبادة، والقناعة، والرضى والمجاهدة……فإن الصوفية امان الله في ارضه و أخذان اسراره وعلمه وصفوة من خلقه…”اهــ. وفي السنة النبوية الكثير من الحقائق التي اعتبرها الصوفية نبراسا لسلوك طريقهم .                     وخلاصة القول ان التصوف هو مقام الاحسان  والصحابة الكرام وان لم يتسموا بالصوفية فبواطنهم هو الحال الذي اقتدى به الصوفية في عباداتهم  وخصوصا الفقراء اهل الصفة .

يقول الشيخ زروق في القاعدة 5  التصوف هو الإحسان
إسناد الشيء لأصله، والقيام فيه بدليله الخاص به يدفع قول المنكر بحقيقته، لأن ظهور الحق في الحقيقة يمنع من ثبوت معارضتها. فأصل التصوف مقام الإحسان الذي فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بأن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك). لأنّ معاني صدق التوجه لهذا الأصل راجعة وعليه دائرة، إذ لفظه دال على طلب المراقبة الملزومة به.فكان الحض عليها حضاً على عينه، كما دار الفقه على مقام الإسلام والأصول على مقام الإيمان. فالتصوف أحد أجزاء الدين الذي علمه عليه السلام جبريل ليعلمه الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فافهم.

ثم جاء بعدهم  من “رواد علم السير والسلوك” من صالحي التابعين وزهادهم ونساكهم،وعبادهم ممن اشتهر بعلم التزكية الروحية، وفقه الباطن سادتنا :أويس القرني ،حبيب بن سالم الراعي ،مالك بن دينار ، الحسن البصري ، الامام جعفر الصادق ، أيوب بن كيسان السختياني ،عبد الواحد بن زيد، أبو هشام الصوفي ، ابراهيم بن أدهم، فرقد السبخي، الفضيل بن عياض ، شقيق البلخي، معروف الكرخي…ولكل واحد من هؤلاء الاعلام دوره الايجابي وثراته النافع في تزكية الروح وتنوير القلوب…

ونتابع “حركة تجديد القلوب وتنويرها”عبر أئمة هذا الشان في القرن الثالث الهجري الذين كانوا من اكابر وراث النبوة في هديها السلوكي العملي وسَمْتها الاخلاقي التربوي ،ومن هؤلاء السادة الأئمة : سلمان الدراني ،بشر بن الحارث الحافي ، احمد بن ابي الحواري، الحارث المحاسبي ، ثوبان بن ابراهيم المصري ،السري السقطي ،يحيى بن معاذ الرازي، ابوزيد البسطامي ،سهل بن عبد الله التستري، عمرو بن عثمان المكي، أبو القاسم الجنيد….

والهدف من ايراد هؤلاء الاعلام ائمة الصوفية، هو التدليل على ان التصوف علم من علوم الاسلام التي نشأت وانتشرت في وقت باكر لم يتجاوز القرون الثلاثة الفاضلة .فمصطلح الصوفية قد عرف قبل نهاية المائة الاولى من الهجرة ، واشتهر وداع، قبل نهاية المائة الثانية ،وتَـقَعَّدت قواعده وحُددت معالمه وتحدث الناس عن ادابه ،وفقهه واحواله ،ومقاماته قبل نهاية المائة الثالثة.                                       ومن خلال المعاني العديدة للتصوف الاسلامي يمكن ان نضع مفهوما جامعا لمعاني التصوف التي دارت عليها اقوال أهل العرفان وهو :

التصوف الاسلامي هو منهج سلوكي تربوي على طريق الحق بصدق تتم به مكارم الاخلاق وتنقدح في قلوب السالكين انوار العلوم وحقائق الوجود وأسرار التجليات الالهية ما يجعل للسالك فرقانا في حياته يوصله الى عبادة الله كأنه يراه أي الى مقام الاحسان .                                                                    التصوف أوله مجاهدة و آخره مشاهدة .

ونختم بقوله تعالى في سورة الجمعة  ” هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ”وفي سورة البقرة سبق التعليم التزكية”رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ” ففي الايتين الكريمتين منهاج عام للتربية الصوفية بما يشتمل عليه من علم يسمو بالمدارك الانسانية وترويض عملي تربوي يهذب السلوك ويرقق التوحيد، ويتمم مكارم الاخلاق ،وصولا الى التزكية بكل ما تحمل من معاني الطُّهر والنقاء والوضاءة ونماء مشاعر الخير ووصائل الاخاء .

 وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى اله وصحبه

رشيد موعشي

1٬679 : عدد الزوار