شرح القاعدة السادسةوالعشرون

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد،وعلى مولاتنا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين،وعلى سيدتنا خديجة الكبرى أم المؤمنين،وعلىآله وصحبه أجمعين.    

نستأنف شرح القواعد المباركة من خريطة السلوك العرفاني لأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله،وقاعدتنا اليوم تقول: [ظهرت المخلوقات الكونية حسب التقديرات الأزلية،وكل على حسب إستعداده الذّاتي (ما ترى في خلق الرحمن من تفٰاوت)(كل ميسّر لما خلق له)].                                           أولاً لا بد من التفريق بين مفهومي الوجود والظهور:  

   الوجود: بدأ بنور النبوة،وهو أول مخلوق برز من الصفة الأحدية،فالنبوة كانت ولا شيء معها..أما الظهور فهو ظهور الكون،ولم يظهر الكون إلى في بساط الرحمانية،وهذا من تحقيقات مشربنا المبارك..الظهورهوظهور مقتضيات الأسماء الإلهية،كما أن العدم هو عدم الأسماء الإلهية.. وهذا ما يؤكده الحديث المُتداول عند القوم رضي الله عنهم: (كنت كنزاً مَخفياً فأحببت أن أعرف،فخلقت الخلق،فبي عرفوني) الحديث.. فالكنزية هي كنزية الأسماء الإلهية والتجليات.. فالمعروف هو المرتبة وليس الذات الغنية عن العالمين،حتى عن أسمائها وصفاتها..فأحبّ كل إسم أن يُظهر مقتضاه: الغفار يطلب المُذنبين،والهادي يطلب الضالين،والرزاق يطلب المَرزوقين،وكذلك الأمر في باقي الأسماء..

     من المصطلحات الأساسية عند العارفين:”الأعيان الثابتة”،وهي الصور العلمية للأسماء الإلهية،أي هي حقائق الممكنات في العلم الإلهي. ويُسميها المتكلمون بالماهيات،كما يُسميها أهل الله الإستعدادات والحقائق العلمية.. وهي لا تتّصف لا بالوجود ولا بالعدم في ذاتها،ولا مُتّصفة بشيء من صفات الوجود من العِلّية والمَعلولية والتقدّم والتأخّر..  

 فكما أن الأعيان الثابتة ظلال للأسماء والصفات الإلهية،كذلك الأعيان الخارجية ظلال للأعيان الثابتة.. وقد قال جمع من العارفين،في قوله تعالى: (وعلّم آدم الأسماء كلها)،بأن هذه الأسماء هي الأعيان الثابتة،إذ لكل عَيْن إسم يخُصّها.. والعلم الإلهي ثابت في هذه الأعيان.. والحق تعالى عندما يوجد المخلوقات،إنما يُعطيها ما تقتضيه حقائق الأشياء من الأحوال والأحكام،ولهذا قال الشيخ الأكبر: [الأشياء ما إستفادت إلا الوجود].. 

يقول الشيخ كمال الدين القاشاني: [وسُميت هذه المعلومات أعياناً ثابتة،لثُبوتها في المرتبة الثانية،لم تبرح منها ولم تظهر في الوجود العيني إلا لوازمها وأحكامها وعوارضها المتعلّق بمراتب الكون. فإن حقيقة كل موجود إنما هي عبارة عن نسبة تعيّنه في علم ربّه أزلاً.. وبالجملة: فالأعيان الثابتة والماهيات والأشياء،إنما هي عبارة عن تعيّنات الحق الكُليّة والتّفصيلية].

المخلوقات كلها لا تخرج عن دائرة الأسماء الإلهية،كما أنها من مُقتضيات القرآن الكريم: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)..  والتجلّي الإلهي هو ظهور مُقتضى الآية القرآنية أو الصفة والإسم الإلهي في الوجود.. فالتجليات الإلهية هي التي تُسيّر الكون الإلهي وتَضمن إستمراريته.. ولا بد للتجلي الإلهي من حُضور مرتبة من مراتب الحقيقة المحمدية،فكل العطاءات تمُرّ عبر وساطة نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والمظاهر الكونية لا تخرُج من الوجود العلمي إلى الوجود العيني إلا بوساطته صلى الله عليه وسلم،لتلطيف جلال الأسماء الإلهية،وهو سرّ قوله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وقوله (رحمتي سبقت غضبي).. والأمر الإلهي هو الوجود المُفاض على المُكوّنات.. قال الله تعالى: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر)،فالحقيقة المحمدية كانت في مقام الوحدة فبورك فيها فتكثّرت (المُتأحّد في عين الكثرة والمُتكثّر في عين الوحدة).. فهو صلى الله عليه وسلم واحد في ذاته،مُتكثّر من حيث ظلاله وصور تجلياته.. وما زالت البركة مستمرة حتى تظهر جميع المقتضيات القرآنية،لأن غياب النبوة يفتح المجال للجلال المحض (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون).. وهذا ما يُعنون عنه وصفهم له صلى الله عليه وسلم بالسرّ الساري في كل ذرات الوجود أو في كل المقتضيات.. 

       فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،من حيث حقيقته،هو المُنفّذ لمُراد الحق تعالى في عباده اصطحابا بالاسم الالهي المتجلي على العبد.. حسب ارادة  الله تعالى ،وهو الواسطة بين الحق والخلق،ولا شيء إلا وهو به مَنوط.. وكما يقول الأمير عبد القادر الجزائري: [سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليس له وجود مع الحق تعالى،وإنما هو ظهور الحق تعالى لنفسه بنفسه،فهو كناية عن علم الحق بنفسه..ولا يَفهم عنّا إلا أهل طريقتنا،إذ لا يفهم عنك إلا من أشْرَق فيه ما أشْرَق فيك..].. 

 قال الله تعالى: (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى). أعطى كل شيء خَلقه هو كماله الذي يستحقّ،فما في الكون نقص أصلاً، لأنه ما في الوجود إلا الأسماء الإلهية ومُقتضياتها،وما ثَمّ أشرف من الأسماء الإلهية.. وكما قال الإمام الغزالي: [ليس في الإمكان أبدع مما كان]..  

      وقال الله تعالى: (وإنا لمُوفوهم نَصيبهم غير منقوص) فنصيب كل مخلوق هو مقتضى حقيقته وإستعداده.. وإعوجاج القوس إستقامته لما وُجد له.. فالإستعداد هو الطالب المُجاب،الدّاعي الذي لا يُرَدّ دعاؤه،وهو المراد بقوله تعالى (أجيب دعوة الداع إذا دعان).. فالإستعداد مرتبط بالأعيان الثابتة،ودعوتها مُجابة،أي إخراج المقتضى من الوجود العلمي إلى الوجود العيني.. وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مُيسّر لما خُلق له)..

الإستعداد هو الأصل،والأسباب الخارجية تابعة له.. فالنازل بكل مخلوق هو من لوازم عينه الثابتة وحقيقته،وتأثير القدرة تابع للإرادة،والإرادة تابعة للعلم.. فلا يُزاد في حقيقة كل مخلوق وإستعداده،ولا يُنقص منه،وهو معنى قوله تعالى: (أعطى كل شيء خلقه ثم هدى). فلكل مخلوق إستعداد هو نَصيبه من الحق تعالى،ولا يُشبه إستعداداً آخر من كل وجه. وسبب هذا الإختلاف هو الوجه الخاص الذي لكل مخلوق من الحق،فلا تكرار في الوجود أبداً.. 

 الإستعداد الذاتي مرتبط بالعين الثابتة،التي لاتغيير فيها ولا تبديل،وكل ما أراده الحق تعالى من المخلوقات مرتوق في هذه الأعيان الثابتة كصورة لعلم الحق تعالى،وفي هذا السياق تُفهم قولة الشيخ الأكبر: [الأشياء ما إستفادت إلا الوجود]..أما الأعيان الجُزئية،وهي الممكنات في ظهوراتها المحسوسة،فهي تابعة للأعيان الثابتة،وهي المرتبطة عند العارفين بالخلق الجديد الذي لا يتوقف ولا يتكرّر ،للإتّساع الإلهي،ولإستحالة تعطيل الأسماء الإلهية..فلا يصدُر عن الحق تعالى شيء،إلا ولذلك الشيء إسم إلهي إقتضى صُدوره،كائناً ما كان.. فهو تعالى يفعل ما تقتضيه ألوهيته،من غير إعتبار شيء زائد على ذلك..   

 فكل المخلوقات هي أحكام الإستعدادات الممكنة الثابتة في العلم الإلهي.. فلا شيء يقع إلا بعلم وإرادة إلهيين.. وهذا ما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم: (الله المُعطي،وإنما أنا قاسم).. فمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُريد إلا ما أراده الحق تعالى،فهو طرف فاعل في تجليات الأسماء الإلهية،بحكم الإصطحاب والتحلّي بكل أسماء الله تعالى (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)..

وهنا تندرج المسألة الخلافية للعلم الإلهي ومعلوماته، وننقُل نصاً للأمير الجزائري يشرح فيه المسألة ويرفع الخلاف الحاصل فيها بين الشيخ الأكبر والشيخ الجيلي،يقول: [العلم تابع للمعلوم في مرتبة التعيّن الأول،لأن المعلومات في هذه المرتبة غير مُتميّزة عن الذات. ولا شكّ أن العلم مُتأخّر عن الذات بالمرتبة،ضرورة تقدّم الذات على صفتها. وإن كان علمه تعالى عين ذاته،ولكن تَسميته علماً يقتضي تبعيّته. ويُطلق عليه في هذه المرتبة “علم فعلي”،من حيث أنه مبدأ تحقيق المعلوم. وأما في مرتبة التعيّن الثاني،فالمعلوم تابع للعلم،لأن المعلوم مُتميّز عن الذات لنفسه في هذه المرتبة،ويُطلق عليه “علم إنفعالي” من حيث أنه مبدأ إنكشاف المعلوم عَيناً قائماً مُتميّزاً. والإنكشاف فرع التحقّق،إذ لا ينكشف إلا مُتحقّقاً في نفسه. والعلم واحد في المرتبتين،والتعدّد نسبي..].. 

والشيئيّة عند أهل الله شيئيّتان: شيئية ثُبوت،وشيئية وجود. 

شيئيّة الوجود أو الوجود العَيْني: حادثة،وهي المُرادة المَعنيّة في قوله تعالى: (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً) أي موجوداً..

وشيئيّة الثّبوت أو الوجود العلمي: هي عبارة عن إستعداد الممكن وقبوله للظّهور بالوجود الحق،وظهور الوجود الحق به،فإنه لولا قبوله ما حصل ما حصل. ألا ترى المُحال،لمّا لم يكن له إستعداد ولا قبول للمَظهريّة ولا للظهور،ما كان له وجود؟.. فشيئية الثّبوت قديمة،وهي المُرادة والمُخاطبة بقوله تعالى: (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) كان المأمور ثابتاً معدوماً،فسمع الخطاب فإمتثل الأمر بالكون فكان.. فمُتعلّق الأمر والحُدوث والخَلق والتّكوين،إنما هو الصورة،وهي الهيئة الإجتماعية الحاصلة من إجتماع الأسماء. فمعنى (كُنْ): إقْبَلإتّصافك بوجودي وظُهوري بك،فتكون مَظهراً لي،لا أنك تكون موجوداً. فالأمر والمأمور والآمر،واحد عند التحقيق،والتغايُر بينهما إعتباري،ليس بشيء زائد على الهيئة الإجتماعية للأسماء الإلهية،التي تلك العين الثابتة صورتها العلمية.. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد نبي الله،وعلى الزهراء بضعة رسول الله.

409 : عدد الزوار