شرح القاعدة 21

القاعدة ( 21 )

الألوهية جمعت بين الأضداد،فمن أسمائه تعالى: الضار والنافع والمُعطي والمانع ، وهذا يقتضي أن يكون في العالَم ذو بَلاء ، وذو عافية،وذو غِنى ، وذو فَقر ؛ لأن كل الأسماء لها حُكم ، ولها أثر،وتعطيل دائرة اسم مُحال ، فما تَمّ من تَقبل حضراتها الأضداد إلا الألوهية ، فلا تعترض على شيء،فلا يقع في مُلك الله ما لا يُريده الله .

الشرح:

هنا سنتناول قاعدتين معاً ؛ لأنهما مترابطتين في المعنى العرفاني ، حيث مرّبنا في الشروحات السابقة التفريق بين الذات الإلهية ، ومرتبة الألوهية ،وذكرنا بعضاً مما جادت به قرائح العارفين ، وأنفاس الكُمّل منهم،من التمييز بين المفهومين ، وسنُجمل في خلاصة ما قيل في الفرق بين المفهومين ، فنقول وبالله التوفيق.

أجمع العارفون بأن الذات الإلهية لها الغنى المطلق عن العالمين ، وعندما يُطلق العارفون مفهوم الذات فهم يقصدون معانٍ مختلفة،منها أربعة معان أساسية،وهي: مرتبة الأحدية،ومرتبة الألوهية،والقرآن،والحقيقة المحمدية .

وقد أجمل شرح هذه المعاني المختلفة للذاتأستاذنا ــ حفظه الله ــ عندما يقول: [الذات هي المُسماة في اصطلاح ساداتنا بالأحدية ، فالأحدية ذات ؛ لأنها أول مرتبة وجودية ،ومن مُقتضاها (الفيضة القرءانية،ونور النبوة ) والألوهية ذات ؛ لأن تحت حُكْمها جميع الأسماء الإلهية والتى بها التّجلّي ، والقرآن ذات ؛ لأن الكون كله يرجع إليه ، والحقيقة المحمدية ذات  ؛ لأنها الجامعة لجميع الحقائق،وهي صاحبة الرحمة في الكون الإلهي، والتجليات تحتاج إليها في الظهور ، والذات الإلهية لا يَصْلُح في حَقّها سوى صفات السّلْب ،أما الأوصاف الثّبوتية  فتُشَبّهها بالمخلوقات ، والصفات الثّبوتية تتعلّق بمرتبة الألوهية ].

يقول الشيخ الأكبر ابن عربي: [ العلم بذات الحق مُحال حُصوله لغير الله، والإنسان المُدْرك لا يعرف إلا ما يُشابهه ويُشاكله،والباري تعالى لا يُشبه شيئاً ، ولاهو في شيء مثله،فلا يُعرف أبداً ، فاعلم أن الكون لا تعلّق له بعلم الذات أصلاً،وإنمامُتعلّقه العلم بالمرتبة ، وهو مسمى (الله) ، الذات مجهولة العين والكيف،وعندنا لا خلاف في أنها لا تُعلم،بل يُطلق عليها نُعوت تنزيه ، فالذات الإلهية في أحديتها لا وَصْف لهاولا رَسْم، فهي في عَماء، حيث كان الله قبل أن يخلق الخلق،كما ورد في الحديث ، بمعنى أنه في الكلام عن الصفات يجب الإشارة إلى أن الذات الإلهية لم تكن موصوفة ولا مُسمّاة،فهي في أزل لا أول له ، بينما وصف الذات بأسماء وصفات، ولو أنها قديمة وأزلية،إلا أن ثنائية الصفة والموصوف من جهة يوجب لها بداية،وتعلّق الصفة وتحقّقها في الوجود من جهة أخرى يوجب لها بداية كذلك] .

هذا التعلّق هو الذي عبّر عنه ابن عربي بالاثْنَينيّة عندما قال:[ إذ لا تعقل  النّسْبة إلا باعتبار الاثنينية ] ، فالاسم الإلهي الجامع الله:هو الجامع للنّسب،أي الأسماء والصفات،في مقابل الذات المُعراة عن كل نسبة ، فلا يُعرف الله إلا بالعالَم،أي لا يُعرَف الإله إلا بالمألوه.

يقول ابن عربي: [ ثمّ إن الذات لو تَعرّت عن هذه النّسب لم تكُن إلهاً ، وهذه النّسب أحدثَتها أعيانُنا ، فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلهاً،فلا يُعرَف حتى نَعرف ، فبعض الحكماء ادّعوا أن الله يُعرف من غير نَظر في العالَم،وهذا غلط ، نعم ، تُعرف ذات قديمة أزلية،لا يُعرف أنها إله حتى يُعرف المألوه ، فهو الدليل عليه ، ثمّ يُعطيك الكشف أن الحق نفسه كان عين الدليل على نفسه وعلى ألوهيته،وأن العالَم ليس إلا تجلّيه في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه،وأنه يتنوّع ويتصوّر بحسب حقائق هذه الأعيان وأحوالها].

ويقول ابن عربي في كتابه { فصوص الحكم } : [ فالمُؤثّر بكل وَجه وعلى كل حال وفي كل حضرة هو الله،والمؤثَّر فيه بكل وجه وعلى كل حال وفي كل حضرة هو (العالَم)].

وذكر أيضاً في كتابه { الفتوحات المكية } نصاً موضحاً لحقيقة الألوهية ، يقول فيه:[ إن الحق بين الخلق وبين ذاته الموصوفة بالغنى عن العالمين ، فالألوهة في الجبروت البرزخي،فتُقابل الخلق بذاتها وتُقابل الذات بذاتها ؛ ولهذا لها التجلّي في الصور الكثيرة ، والتحوّل فيها والتبدّل ، فلا يَعلم المخلوق الذات إلا من وراء هذا البرزخ وهو الألوهة،ولا تحكم الذات في المخلوق بالخلق إلا بهذا البرزخ وهو الألوهة ، وتحقّقناها فما وجدناها سوى ما ندعو به من الأسماء الحسنى].

من خلال التحقيقات العرفانية لمشربنا المبارك،يمكننا مقاربة المفاهيم الأربعة الأساسة لمفهوم الذات في اصطلاح العارفين،وهم(الأحدية، والألوهية،والقرآن،والحقيقة المحمدية):

بالنسبة لمرتبة الأحدية فقد أجمع العارفون بأنه لا تجلّ بها،ولا تَعرف أحداً،كما لا يعرفها أحد ، فهي محتدّ نور النبوة،والفيضة القرآنية لا غير ، أما الألوهية فهي المرتبة الجامعة لحقائق الأسماء الإلهية كلها، والاسم الجامع الله هو الاسم الكامل المُحيط الجامع لجميع الأسماء، المتقابلة وغير المتقابلة ، فما ثَمّ من يَقبل الأضداد في وَصفه إلا الله.

يقول ابن عربي: [ الاسم الله هو عين الذات،لكن من حيث المرتبة التي هي الألوهية ]، وبساط الألوهية هو بساط الاصطحاب بين نور النبوة والفيضة القرآنية ، والقرآن هو كلام الله،والدستور الذي يسير عليه الكون﴿مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ ، والحقيقة المحمدية هي الجامعة لجميع الحقائق، اصطحبت مع الاسم الجامع ( الله ) ،وتحلّت بحُلل الأسماء الإلهية كلها﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ﴾ ، والقرآن صفتها،فتحقّقت بكل حقائقه ومعارفه وخفاياه،الظاهرة والباطنة ، فالاصطحاب ألبس النبوة المحمدية حُلَل الأسماء والصفات الإلهية،وحُلّة القرآن ، وكذلك هي برزخ رحموتي بين التجليات الإلهية والمخلوقات ؛ ليعُمّ اللطف والرحمة [ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبِي ]([1])،أي سبقت الرحمة النبوية ظهور التجليات الجلالية ؛ لتسبق بذلك رحمة الله غضبه ، فالبرزخ الحقيقي بين الحق والخلق هوالحقيقة المحمدية ؛ لأن الكون لا قدرة له على التلقّي المباشر من الحضرة الإلهية ، ولذلك أوكل الحق تعالى لمولانا رسول الله rالخلافة الكلية،فظهر الخليفة بصورة من استخلفه [ مَن رَآنِي فقَدْ رَأَى الحَقَّ ]([2]) ،ولا يقوم مقام الحق إلا الحق.

فالاصطحاب كما حققه شيخنا ــ رحمه الله تعالى ــ هوبداية ونهاية الخلق ، وهذا ما يُشير إليه المعنى العرفاني لحروف الاسم الجامع (الله) ، أو كهوف الذات:فـ (الألف) إشارة إلى الأحدية،وهي حضرة سحق ومحق ، و(اللام الأولى) إشارة إلى الأحمدية ، و( اللام الثانية ) إشارة إلى المحمدية ، و(الهاء) تُشير إلى سدرة منتهى المقامات ، وما بعد سدرة المنتهى لا معرفة للمخلوق به.

وخلاصة القول : أن الألوهية مرتبة للذات يطلبها المألوه وتَطلُبه ، والذات غنية عن كل شيء ، حتى عن الأسماء والصفات ، والألوهية جمعت بين الأضداد،فمن أسمائه تعالى: الضار والنافع والمُعطي والمانع ، وهذا يقتضي أن جميع الدوائر الكونية تشتغل ، لأن كل الأسماء لها حُكم ولها أثر،وتعطيل دائرة اسم مُحال ، قال الرسول r: [ لولم تُذنبوا لجاء الله بقوم يُذنبون فيَسْتغفرون فيغفرالله لهم ]([3])، فلا تعترض على شيء،فلا يقع في مُلك الله ما لا يُريده الله.

وصلى الله على سيدنا محمد نبي الله ،وعلى الزهراء بَضعة رسول الله،وعلى آله وصحبه.


([1])الراوي: أبو هريرة، المحدث: البخارى ، المصدر: صحيح البخارى ، الصفحة أو الرقم: 7453، خلاصة حكم المحدث: [صحيح].

([2])الراوي: أبو قتادة الحارث بن ربعي، المحدث: البخارى ، المصدر: صحيح البخارى ، الصفحة أو الرقم: 6996، خلاصة حكم المحدث: [صحيح] ، التخريج : أخرجه البخاري (6996)، ومسلم (2267).

([3])الراوي: أبو هريرة ، المحدث: مسلم ، المصدر: صحيح مسلم ، الصفحة أو الرقم: 2749، خلاصة حكم المحدث : [ صحيح ] .

307 : عدد الزوار