أقدمية النبوة المحمدية

أقدمية (النبوة المحمدية) من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوي

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد النبي الأمين وعلى أله وصحبه أجمعين.

قال الله تعالى (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) [المائدة].(نور وكتاب): الواو تقتضي المُغايرة، لهذا ف (النور) المذكور في الآية هو (النبوة) وليس المقصود به (القرآن)، لأن ذلك يؤدي إلى تكرار لا فائدة منه. ويتبين من خلال هذه الآية الكريمة أن (نور الله وكتاب مبين) صفتان لحقيقة واحدة، ولهذا قال تعالى (يهدي به) ولم يقل (يهدي بهما). وذُكر النور قبل ذكر الكتاب، ف “ظهور نور النبوة كان قبل نزول القرآن”، قال تعالى (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله) يوسف]، فتدبّر قوله تعالى (وإن كنت من قبله)، وليس في القرآن وقف واجب، فحيثما وقفت هناك معنى يجب التنقيب عنه. قال صلى الله عليه وسلم “كنت نبياً وآدم منجدل في طينته”، والنبي مأخوذ من النّبأ وهو الخبر، فالمعنى أنه كان مُخبراً عن الله تعالى بدون وسائط. ف (حقيقة النبوة كانت موجودة قبل القبل، والقرآن ظهر ببعثته صلى الله عليه وسلم).

__ وفي القرآن الكريم عِدّة آيات تشرن إلى (أقدمية النبوة المحمدية):

فهو صلى الله عليه وسلم (أول العابدين)، قال تعالى (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) الزخرف]، أي “كُنت ولم يكن معي غيري”، إذ لو كان لله ولد لكنت أعرفه. فهو أول العابدين وأول المخلوقين.

وهو صلى الله عليه وسلم (أول المسلمين)، قال تعالى (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) الأنعام..

وهو صلى الله عليه وسلم (أول المُخاطَبين)، قال تعالى (اتْلُ عليهم نَبأ) (نَبّئهم أن الماء قسمة بينهم): نَبّئهم أنت يا محمد، وهذا في حق قوم صالح، ولا يُقال للغائب (نبّئهم)،ولا يُقسَم بحياة المَيّت (لعمرك)،إذن هو (حضور باطني للنبوة المحمدية)،فكان مُخبراً عن الله بدون وسائط، فهو شاهد على الكون (إنا أرسلناك شاهداً) وحضور الشاهد واجب وإلا رُفِضت شهادته. قال تعالى (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) الدخان: (إرتقب) بمعنى إنتظر وتوقّع حدوثه، ولا يُقال للغائب إرتقب،(فتقدّمت حقيقته على كل الخلائق)،قال صلى الله عليه وسلم “أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر”، فهو (رسول من الله) قبل القبل، وبمَجيء المَلَك أصبح (رسول من عند الله). وقوله تعالى (إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين): انتبه إلى قوله تعالى (إن يوحى إليّ) وبعدها أداة (إذ) التي تُفيد التحقيق مع الزمن الماضي، وهي بمعنى (حين)، أي (كان حاضراً) فأوحى الله تعالى إليه أنه نذير مبين حين إخبار الله الملائكة بخلق آدم. وانتبه إلى قوله تعالى (إلا إنما) التي تُفيد الحصر. وفي آية أخرى (وقل إني أنا النذير المبين) الوحيدة في القرآن بالتعريف [الثانية (وجاءكم النذير) هذه في الحياة الآخرة] لتميّزه عن باقي الرسل الكرام، لأنه صلى الله عليه وسلم (نذير من النذر الأولى)، له الأولية في الإنذار والإخبار عن الله ، ولم يُرسل قبله رسول ولا نبي (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي)، غيره “نُوّاب يُبلّغون عنه”.

كل النبيين والرسل الكرام أتوا =نيابة عنه في تبليغ دعـواه.

فهو الرسول إلى كل الخلائق فـي = كل العصور ونابت عنه أفواه.

 [عن الْبَراءِ بن عازبٍ رضيَ اللَّه عنهما قال أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ قالَ لَهُ: “ألا أعلِّمُكَ كلِماتٍ تقولُها إذا أويتَ إلى فراشِكَ، فإن مِتَّ من ليلتِكَ متَّ على الفطرةِ، وإن أصبحتَ أصبحتَ وقد أصَبتَ خيراً تقولُ: اللَّهمَّ أسلَمتُ نَفسي إليْكَ، ووجَّهتُ وجْهي إليْكَ، وفوَّضتُ أمري إليْكَ، رغبةً ورَهبةً إليْكَ. وألجأتُ ظَهري إليْكَ، لا ملجأَ ولا مَنجَى منْكَ إلَّا إليْكَ. آمنتُ بِكتابِكَ الَّذي أنزلتَ، ونبيِّكَ الَّذي أرسلتَ”، قالَ البراءُ: فقلتُ: وبرسولِكَ الَّذي أرسلتَ. قالَ: فطعنَ بيدِهِ في صَدري ثمَّ قالَ: “ونبيِّكَ الَّذي أرسلتَ” (سنن الترمذي، حديث حسن)

في هذا الحديث (تمييز دقيق بين النبوة والرسالة).]

قال تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين): و إرساله رحمة للعالمين يقتضي أنه (أفضل العالمين) وكان موجوداً قبل العالمين، إذ لا فائدة من إرساله رحمة للعالمين وهو لم يظهر إلا مُتأخراً عنهم.

وقال تعالى (وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون): فهو صلى الله عليه وسلم (آية الله الكبرى) المطلوبة في الآخرة والأولى، حام حولها العارفون السابقون واللاّحقون ولم يُدركوا كُنْهَها، كما يطوف المسلمون حول الكعبة ولا يعرفون حقيقتها. فما هي حقيقة الكعبة؟ وهو أول بيت وُضع للناس (إن أول بيت وُضع للناس) ولم يقل (للمسلمين)، لَبنات وُضعت بعضها على بعض، على شكل هندسي مكعب، عُلُوّه كذا وعرضه كذا، أهذه حقيقتها؟ قال تعالى (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس)، ما هي قيوميتها؟ إن لم نعرفها فكيف لنا بمعرفة سيد الوجود (أول بارز) من بُطنان الأزل، من أخذ له الميثاق في الأزل (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال آقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) فسماه رسولاً في تلك البسائط الأولى، لمن تقدّم من الأنبياء، إلى أن آن وقت بعثته. فقد (زيدَ نبياً)، قال تعالى (يا أيها النبي إنا أرسلناك) ولم يقل تعالى (يا محمد إنا أرسلناك). أُخذ له الميثاق في تلك “الأزمنة الغابرة” و(المقامات الأحمدية الباطنة)، فمَجيئه تحقّق، وكل منهم آمن به وصدّق. فبلّغوا شريعته، وأقرّوا بحقيقته (قالوا أقررنا)، وشهدوا بعموم رسالته (قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين). جَهلوا أوّليته، وأنْكَروا رُتْبته، وبَقوا مع القشور، ولم يبحثوا عن (وِعاء أبي هريرة المستور). وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن هذا العجز الذي يُحيط بحقيقته ويُصيب كل من رام معرفته، فقال “ما عرفني حقيقة غير ربي”.

قال الله تعالى (ولو أن عندنا ذكراً من الأولين لكنا عباد الله المخلصين): هؤلاء الملائكة لم يكن عندهم ذكراً من الأولين، فكيف لنا نحن بمعرفته، وحقيقة هذا النور العظيم لا تُنال بالعلوم النقلية ولا تُدرك بالعلوم العقلية، بل بالفتوحات الذوقية، وحتى هي وقفت عند حد محدود. فلا يعرفه إلا من عرف من عرفه. إبحث عن عارف فتَعرف ما لم تكن تعرف. سيدنا موسى كان يجهل العلوم الباطنة، فشدّ الرحال إلى من عَلّمه ما لم يكن يعلم. فبَواطن الأمور لا تُعرف إلا بمُعَرّف، وهذا من أحد أسرار إثبات ألف كلمة (الباطن) في القرآن كله، وحذف ألف كلمة (الظاهر).

قال الله تعالى (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً): فكما لا تَصحّ الحياة بدون شمس وقمر، كذلك حقيقته هي سراج الكون ومَدَه ، هي المُمدّة للوجود يستمد منها كل موجود، هي مصباح دائم النور، يَسْتَنير من الحق ويُنير الخلق، ولا ينقص منه شيئاً، ولذلك قال تعالى عنه سراجاً مُنيراً فهو الواسطة في كل شيء.

فأقام الحق تعالى طاعة الرسول مقام طاعة الله (من يطع الرسول فقد أطاع الله). وأقام مبايعته مقام مبايعته (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله). ومحبته مقام محبته (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله). ووَصفه بالغِنى (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله). ووصفه بالإستجابة (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم). ووصفه بالإنعام (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه). ونَسَب له القضاء (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرج مما قضيت ويسلموا تسليم). ونسب له الرضى (والله ورسوله أحق أن تُرضوه). وقَرَن بَراءته تعالى ببَراءته (براءة من الله ورسوله). ومحاربة الله بمحاربته (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله). ومعصية الرسول في ميزان واحد مع معصية الله (ومن يعص الله ورسوله)،وميزتها بتاء مطلقة (معصيت الرسول). وقَرَن تعالى مُوالاته بموالاته (إنما وليكم الله ورسوله). فإياك أن تُنكر وساطته فهي البدعة بعينها، قال صلى الله عليه وسلم: “الله المُعطي، وإنما أنا قاسم”، ومن قَسَم لك فقد أعطاك. وإذا نَفيت وساطته فإبْحَث لك عَمّن يشفع فيك ويشهد لك بالإيمان (ويُؤمن للمؤمنين). أما الآية (وإذا سألك عبادي عني) والتي يتخذها البعض دليلاً لنفي وساطته، فلكي يكون الأمر كما يظنون يجب حذف (كاف الخطاب) وترك (وإذا سأل عبادي عني)، أما والخطاب موجه له فمعناها: (إسْأل محمداً عن الله)، فقد جعله واسطة بينه وبين خلقه. وقال تعالى (قريب) ولم يُبيّن “مِنْ مَنْ”، ولا شك أنه قريب من المسؤول أي “من نبيّه”، لا من السائل الذي قد لا تتوفر فيه شروط قُرب الله منه. فاقْتَرب من محمد بالاقتداء به وإسْأَله عن ربه (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله). فهو السيد الأكبر المشهود له بالكمال، خليفة الرحمن، فلم يتحقق بالنبوة والرسالة إلا الموصوف بهما حقاً وحقيقة، وغيره (نُوّابُه، وأوصيّاؤه)، من فَيْض نبوته استمدوا، ومن سراج رسالته إقتبسوا (هذا ذكر من معي وذكر من قبلي). فشرائعهم فرع عن شريعته بحُكم الميثاق المأخوذ في (عالم الشأنية) الذي يقتضي (وجود حقيقته المحمدية)، تُمِدّ بَرازيخ الوحي الأولية. وزيادة في التنويه به وإظهار فضله وعُلو قدره، لَم يُناديه إلا بصفاته: (يا أيها النبي) (يا أيها الرسول) (يا أيها المزمل) (يا أيها المدثر). ونادى سائر الأنبياء بأسمائهم: (يا إبراهيم أعرض عن هذا) (يا موسى أقبل ولا تخف) (يا عيسى إني مُتوفيك ورافعك إلي). وأمرنا بمُناداته بصفاته: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً). المبعوث للناس كافة: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون)، أكثرهم لا يعلمون. أُرسِلَ للسابقين: (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال آقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا)، فأقروا بمنزلته، ودَخلوا تحت حكم رسالته ومقتضى خلافته وسلطان وَساطته. فمعاملات الخَلْق كلها في الحقيقة مع هذا “الوَسيط البَرْزَخي” (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجحدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)، والقضاء تَقرير، ولا يُقرّر إلا من بيَده مفاتح الأسماء الإلهية. فهو كائن قبل العالمين، وسيد العالمين. الخلائق كلهم تحت حُكمه: (“آدم ومن سواه تحت لِوائي”، “والله لو كان موسى حياً ما وَسعه إلا أن يتّبعني”، “كنت نبياً وآدم بين الماء والطين”)، (كُنْتُ) وما زِلْتُ. فالرحمة صفة لا بد لوجود الموصوف بها، فلا غاية من وجود النبوة إلا بوجود مقتضاها، أي فِعْلُها (حتى إذا كنتم في الفلك وجَرين بهم): فافهم إلى من يُشير انقلاب الضمير، أما جَريان الفلك فب (نوح ومن معه).

  __ أما ما وَرَد في السنة النبوية المطهرة فهو يَصُبّ في هذه المعاني، ويثير انتباه أصحابه وانتباهنا إلى هذه (الحقيقة النورانية).

أخرج الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله قال: “هل ترون قبلتي ها هنا، فوالله ما يَخْفى عليّ ركوعكم ولا سجودكم، إني لأراكم من وَراء ظهري”.

“أولُ ما خلق اللهُ نورُ نبيِّكَ يا جابرُ” (اورده العجلوني). قال قتادة: قال صلى الله عليه وسلم: “كُنْتُ أوَّلَ الأنْبِياءِ فِي الخَلْقِ، وآخِرَهُمْ فِي البَعْثِ” (اخرجه الطبري وابن سعد في الطبقات).  قال صلى الله عليه وسلم: “كلكم من آدم، وآدم من تراب”، ولم يقل “كلنا من آدم”.

“إني عبدُ اللهِ في أمِّ الكتابِ وخاتمُ النبيينَ وإنَّ آدمَ منجدلٌ في طينتِه” (أخرجه أحمد)

وأخرج عبد الرزاق في جامعه والحاكم وأبو نعيم عن أبي هريرة إن النبي قال: “إني لأنظُر إلى ما وَرائي كما أنظر إلى ما بين يَدي”.

وأخرج الحميدي في مسنده، وإبن المنذر في تفسيره، والبيهقي، عن مجاهد في قوله تعالى (الذي يراك حين تقوم وتقلّبك في الساجدين) قال: “كان رسول الله يَرى مَن خَلْفه من الصفوف كما يَرى من بين يَديه”. فهو نور الله الذي يَشِعّ في كل الاتجاهات ولا تَحْجُبه جهةٌ أو ثوب أو حائط أو مسافة.

وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (بينما أخيط ثوباً في السحر، فوقعت الإبرة مني وانطفأ المصباح، إذ دخل عليّ رسول الله فالتقطت الإبرة من نور وجهه. فقلت: يا رسول الله ما أبهى وجهك، وما أنور طلعتك. فقال: “يا عائشة: الوَيْل لمن لم يَراني يوم القيامة”. فقلت: ومن ذا الذي لا يراك يوم القيامة؟ فقال: “البَخيلُ الذي إذا ذُكِرْت عنده ولم يُصلِّ عليَّ) (رواه ابو نعيم في الحلية وابن عساكر في مسنده).  

وكان الصحابة رضي الله عنهم يَرَوْن نوره يتنقّل من مكان إلى مكان، من مسافات بعيدة، وخاصة في الليل، فكانوا يعرفون مكانه من ذلك، لأنه (لم يكن له ظِلٌ كسائرِ المخلوقات لأن نوره ملكوتي).

 “يَرى بالليل كما يَرى في النهار” (أخرج ابن عدي وابن عساكر، والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله يرى بالليل في الظلمة كما يرى بالنهار في الضوء”. وهذه الخَصيصة تعني أنه (يَرى بنوره وليس بالضوء الحسّي) الاعتيادي.

و(إذا مَشى على الأرض لا يترُك أثراً على التراب أو الرمل، ويترُك الأثر على الصّخر).

قال بعضهم:

لك مشيٌ على الرمال خفيٌّ =لك في الصخر غاصت الأقدامُ.

ومن الشواهد كذلك على (عظمة نوره): أنه في إسرائه ومعراجه لما بَلغ (سدرة المنتهى) قال له جبريل عليه السلام: “لا أقْدِرْ ولو خَطوت خطوة لإحْتَرقت”، وهذا يدل أن (نوره من نور الله)، وبالتالي له (الأولية والأفضلية). وهذا الحديث وإن ضَعّفه علماء الرّسوم، فالقرءان الكريم يُثبت لنا أن جبريل عليه السلام لم يَتجاوز سدرة المنتهى بدليل قوله تعالى (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى) ولم يقُل (فدَنيا) بالمثنى.

وعن أبي بن كعب عن قوله تعالى (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح)، قال رسول الله: “أنا أولهم، ثم نوح، ثم الأول فالأول” (أخرجه ابن عاصم، وإسناده حسن).

“من رآني فقد رآى الحق” (رواه البخاري)، والحديث يُعَنْون عن أفضليته على جميع الخلائق لأنه ليس ثَمّ من يذكر الله بمجرد نَظر الرّائي إليه إلا من أنزله الله منزلته، وأقامه مقامه، ومدحه بقوله (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله).

عن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي: “لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك”. فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي: “الآن يا عمر”) (رواه البخاري).

قال: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله ووالده وولده والناس أجمعين”. ولا شك أن المسلمين يُحَبّون مولانا رسول الله، ولكن لكي تُحِبّ شخصاً ما، أكثر من مَالِك ووالدك وولدك والناس أجمعين، يَجب أن تَعْرفه، فالحب الحقيقي للنبي يقتضي المعرفة، فمن الصّعب أن تَدّعي محبة أحد تَجْهله. إذا كنت لا ترى إلا فقير قريش ويتيمها فما عرفته وما أحْبَبته، أنت خاطئ في مشاعرك، أنت مسلم يَجب عليك تحقيق مقام الإيمان (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم). “لا يؤمن أحدكم” وذكر صلى الله عليه وسلم (الإيمان). قال تعالى (وتَراهم ينظُرون إليك وهم لا يُبصرون) فالصحابة كان بين أظهرهم بجسمه الشريف، ولم يُبصروا حقيقته، ونحن ننظُر إليه في الآيات القرآنية وفي الأحاديث النبوية ولا نُدرك حقيقته. ف (النور المحمدي) أول مخلوق: “أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر”، فاسمع هذا الخطاب وكأنه موجه إليك وكُن (جابر) زمانك، ولا تكُن (تًيْمي العقل والفهم)، تُنكر أوّليته وترفُضها، ولا تُقرّ إلا بخَتْميته لأنها ظهرت بالبشرية. قال تعالى (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين): قراءتان: خاتَم (بفَتح التاء)، وخاتِم (بكسرها). والخاتم محيط بالأصبع من جميع الجوانب، وهو صلى الله عليه وسلم (خاتَم النبيئين) أي مُحيط بهم أولاً وآخراً. و(خاتِم) لأنه مُحيط بدائرة الوجود كذلك أولاً وآخراً، ظاهراً وباطناً. ف (خاتم النبيين) بمعنييها الضد: هو أوّلهم الذي فُتحت به النبوة (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)،”كنت نبياً وآدم منجدل في طينته”. وهو آخرهم الذي خُتمَت به النبوة فلا نبيّ بعده، إذ المختوم هو المًغْلَق من أوله وآخره، فالعرب تقول: (خَتَم زرعه يَخْتمُه خَتماً وخَتَم عليه: سَقاه أول سَقْية، وهو الخَتْم / لسان العرب). وهذه الصفة التي وصفه الحق تعالى بها مطلقة ودائمة، أزلاً وأبداً، لأن كلام الله سرمدي أبدي، فهم خاتم النبيين منذ أُخذ الميثاق له (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتاكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم) الآية، فمنذ “كنت نبياً وآدم منجدل في طينته” وهو الخاتم، لأن الوجود بَدَأ مرتوقاً بنبوته، وفَتَقته رسالته وأظهرت ما يُريده الله.

وردت الآية (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) في معرض الحديث عن زواج النبي من مطلقة زيد، وقد أعتُرض على هذا الزواج باعتباره زواجاً من مطلقة الإبن، فجاءت هذه الآية لتَنفي أبوته البيولوجية لأحد من الرجال، وجاء الإستدراك (لكن رسول الله وخاتم النبيين) فلم قلنا (خاتِم النيين) هنا بمعنى (آخرهم) فما معنى: “إنه ليس أبا أحد من رجالكم، ولكن آخر الأنبياء”، أين العلاقة بين ما قبل حرف الإستدراك (لكن) وما بعده؟ لا معنى في هذا السياق ولا علاقة. وهل كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين يقتضي ألا يكون أباً لأحد من الرجال؟ وهل الأبوة تتنافى مع النبوة؟ فيجب أن يكون القاسم المشترك بين الجملة قبل الإستدراك والجملة التي بعده هو (الأبوة): فإن لم يكن أباً لأحد من الرجال فهو (أب روحي للأنبياء وللمؤمنين). قال تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم): ومن كانت أزواجه أمهات لنا، ألا يكون أباً لنا؟ رُوي عن أبي بن كعب وإبن عباس أنهما قرآ: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم)، أبوة دينية لا أبوة طينية. وهذه القراءة وإن كانت شاذة، فقد إستأنسوا عليها بالحديث الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: “إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أُعَلّمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يستطيب بيمينه) الحديث (رواه أبو داود والنسائي وأحمد).

فكُن شاربا بكأسين: كأس مملوءة من الوعاء الذي بَـثَّـهُ أبو هريرة، وكأس مملوءة من الوعاء الذي لو بَثّه قُطِعَ منه ذاك البُلْعوم. نَاظِراً بِعَيْنَيْنِ: عَيْنٌ إِلى الحَقِيقَةِ ترى أَنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ، وغير مُحْتاج لا للخلق ولا لعبادتهم، وكل الأمور بيده (إليه يُرجع الأمر كله).وعين إلى الشريعة، تُقِرّ أن لا قوة للخلائق على مُكافحة الجناب الأقدس والتلقي من الله تعالى بدون وساطة، فخَلَق أولاً النّسبة محمداً عبده ورسوله، واسطة بينه وبين خلقه، ثمّ خَلَق باقي الكائنات. أو عين تنظُر إلى بواطن الأمور، وعين إلى ظواهرها.

وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه.

الراجي رحمة ربه محمد بن المبارك يناير 2019 الموافق لجمادى الاولى 1440هــ.

1٬734 : عدد الزوار