السرّاء والضرّاء

 (السرّاء والضرّاء) في القرآن الكريم  

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه.

سنحاول في هذا الموضوع أن نُناقش مسألة التقديم والتأخير لكلمتي (السراء والضراء / ومشتقاتهما) في القرآن الكريم،والسبب في ذلك التقديم أو التأخير.. الآيات التي وردت فيها كلمة (السرّاء / النّفع/ الرّشد / النعمة) قبل كلمة (الضرّاء):

1_ (الذين يُنفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يُحب المحسنين) آل عمران 134

سياق الآية يُشير إلى أن (الذين يُنفقون في السراء والضراء) هو خطاب من الحق تعالى بالتحفيز للمسارعة إلى مغفرة الله تعالى وجنّته للذين يريدون أن يتحقّقوا بصفة (التقوى)..وهذا يعني أنهم لم يتحقّقوا بعد بالصفة بشكل كامل..والنفس البشرية في مراتبها السفلى يتعسّر عليها الإنفاق في السراء (الغنى) أكثر منه في الضراء (الفقر)..إلى جانب أن الدعوة إلى الإنفاق هنا يجب أن تكون خالصة لوجه الله عز وجل،فهذا هو المطلوب من الحق تعالى لعباده..فطبيعي أن الإنفاق عند من له سعة وغنى أمر يسير أكثر ممن هو في حاجة وفاقة..فالنفس تُنفق بيُسر كبراً وتجبّراً ورياءً،وليس هذا هو المطلوب في مدمار الترقيّة والتربية من أجل التحلّي بصفة التقوى..من أجل هذا ولغيره تقدّم ذكر (السراء) على (الضراء) في الآية..وهذا الانفاق في السراء والضراء يوصل صاحبه الى محبة الله “والله يحب المحسنين”.

2_ (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لإستكثرت من الخير وما مسّني السّوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يومنون) الأعراف 188

سياق الآية جاء في طلب المُخالفين والمنكرين من سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم،حسب ما جاء في أسباب نزول الآية،لأمور تعود بالخير والغنى المادي عليهم..لهذا تقدّم قوله تعالى (لاستكثرت من الخير) وتأخر قوله تعالى (وما مسّني السوء)..فالخطاب موجه لمن لم تترسّخ أركان الإيمان في قلبه ولم تُباشر أنواره فؤاده..لهذا تقدّم (النفع) على (الضر)..

ولما كان الحديث عن (قوم يومنون) تقدّم (نذير) على (بشير)،لأن المؤمن لا يكترث للأمور المادية ولا يُلقي لها بالاً،والمؤمن لا يأمن من تصاريف هذه الحياة الدنيا،فقد قال تعالى (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون)..

3_ (قل من رب السموت والأرض قل الله قل افاتّخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً) الرعد 16

في هذه الآية يُذكّر الحق تعالى عباده بربوبيته للسماوات والأرض،أي تربيته وعنايته وحفظه لمخلوقاته..وهذا من النعم الإلهية على مخلوقاته (نعمة الخلق والإيجاد،ونعمة الهداية والتوفيق)..فالخطاب الإلهي هنا يذكّر بنعمة الله على مخلوقاته،وهو من فضل الله وكرمه..فالأصل في الخلق هو النعمة والمحبة والكرم..وهذا الأصل لا يشترك فيه المخلوق مع الخالق.. لذلك تقدّم ذكر (النّفع) على (الضرّ)..

4_ (فاليوم لا يملك بعضكُم لبعض نفعاً ولا ضراً ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تُكذّبون) سبأ 42

بالنسبة لسياق الآية: ففي الآية 39 (سورة سبأ) يتحدث الحق تعالى بأن بسط الرزق هو من خصائص الربوبية التي تتّصف بالخيرية..ثم جاء في الآيتين (40-41) ذكر عبادة المخالفين للجن (حقيقة) وللملائكة (وَهماً أو كذباً).. فالمخالفون كانوا يُوالون الجن ويعبدونهم..ومن المعلوم أن المُوالاة والعبادة تكون لجلب المنافع ودفع المضارّ..فناسب تقدّم (النّفع) عن (الضرّ)..

5_ (وما بكم من نعمة فمن الله ثمّ إذا مسّكم الضر فإليه تَجأرون) النحل 53

سياق الآية يُذكّر المشركين بالتوحيد الحق الذي يدعو إلى عبادة إله واحد هو خالق كل شيء وهو الجدير بالعبادة والتقوى..

كان المجوس يدينون ويعتقدون بإلهين: إله الخير (إله النور) وإله الشر (إله الظلمة)..وبأن الصراع بينهما أزلي وأبدي..

وكانت دعوة (الإسلام) منذ سيدنا آدم عليه السلام إلى سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم: من أجل تصحيح هذا المعتقد المنحرف، وإرجاع الأمور إلى الحقيقة الحقّة والأصلية بأنه ليس هناك إلا إله واحد لا إله إلا هو،وهو المالك لزمام الوجود بخيره وشره،بنوره وظلمته.. فالأصل في الخلق هوالخير والنعمة والفضل (وما بكم من نعمة فمن الله)..أما الشرّ فهو عارض وطارئ،لذلك جاء في الآية حرف (ثمّ) التي تُفيد التراخي والبعدية..لهذا ناسب تقديم (النعمة) على (الضرّ)..

الآيات التي وردت فيها كلمة (الضرّاء) قبل كلمة (السرّاء / النّفع / الرّشد / الخير / الرّحمة / النّعمة):

1_ (ثمّ بدّلنا مكان السيئة الحسنة حتى عَفوا وقالوا مَسّ ءاباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) الأعراف 95

سياق الآية يُذكّر بالعقوبة التي أنزلها الحق تعالى على الظالمين والمخالفين من الأسلاف والسابقين.. وذكرت الآية (ثم) التي تفيد التراخي،أي تغيّر التجلّي من الجلال إلى الجمال..فكان العفو عن الخلف وتبديل السيئة حسنة.. فناسب تقديم (السيّئة) على (الحسنة)..

2_ (قل أتعبُدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم) المائدة 76

سياق الآية يتحدّث عن الوجهة الخلقية والبشرية ليسدنا عيسى عليه السلام.. هذه البشرية من موانع الربوبية التي كان ينسبها النصارى لسيدنا عيسى ظلماً وجهلاً.. وكل من إعتقد في ربوبية سيدنا عيسى فهو يُلقي بنفسه في الضرّ وليس في المنفعة الحاصلة لمن إعتقد في كونه رسولاً.. فناسب أن يتقدّم ذكر (الضرّ) على (النّفع)..

3_ (قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستخرون ساعة ولا يستقدمون) يونس 49

سياق الآية يتحدّث عن سؤال المنكرين عن يوم الوعد،وإستعجالهم بالعذاب.. وأمر الساعة بيد الله عز وجل وحده،وهي مرتبطة بأجل مسمى.. وما دام حديث الآية عن الإستعجال بالعذاب،فمن المناسب تقديم (الضر) على (النفع)..

4_ (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً) طه 89

سياق الآية يتحدث عن بني إسرائيل مع السامري،عندما صنع لهم من حليّهم عجلاً من أجل عبادته..

وبنو إسرائيل قد تربّوا في رُعب فرعون وزبانيته (التعذيب والظلم والذّبح..)..والسامريّ كان واحداً من دهاة بني إسرائيل،وله قدرات تميّز بها عن باقي بني إسرائيل (بَصُرتُ بما لم يبصُروا به)..   وقد كان فرعون يدّعي الربوبية،وبنوإسرائيل يُقدّمون له القرابين والعبادة،ومع ذلك يعذّبهم ويَصلهم بأنواع الظلم والضرّ أكثر منه بالرحمة والمنفعة..فقدناسب تقديم (الضر) على (النفع)..                                 5_ (واتّخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئاً وهم يُخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضَراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حيوة ولا نُشوراً) الفرقان 3 تبدأ سورة الفرقان بتعظيم الله(تبارك) ..وإنزال القرآن على سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم (نذيراً)،أي يُبيّن لهم نقمة الله عز وجل وسخطه على من خالف أمره..و(الإنذار) يتضمن (البشارة)،أي أن من تجنّب سخط الله تعالى أمِنَ من عذابه وكان من الناجين.. فناسب تقديم (الضر) على (النّفع)..

6_ (سيقول لك المخلّفون من الأعراب شَغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً أو أراد بكم نفعاً بل كان الله بما تعملون خبيراً) الفتح 11

سياق الآية يذكُر قصة المُخلّفون وإعتذارهم بالإشتغال ب(الأموال والأولاد والزوجات)..وهذا الإعتذار سببه ركونهم إلى شهوة الأهل والراحة،وخوفهم من ضياع محاصيلهم..فالسبب الرئيسي في التخلّف هو الخوف من ضياع الدنيا بشهواتها..  لهذا ناسب تقديم (الضرّ) عن (النفع)..

7_ (قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً) الجن 21

سياق الآية جلالي (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم)،و من لم يستجر بالله عز وجل فلا أحد يملك خلاصه من غضبه وجلاله..  فناسب أن يتقدّم ذكر (الضر) على (الرّشد)..

8_ (يدعوا لمَن ضَرّه أقرب من نفعه لبيس المولى ولَبيس العشير) الحج 13          تبدأ سورة الحج بإنذار الناس من الساعة والتحذير من الشك فيها.. والخطاب هنا عام لكل (الناس)..  وفي الآيات (8_13) من سورة الحج يُخصّص الخطاب القرآني فئة من الناس،وهم أهل المجادلة (بغيرعلم ولا هُدى ولا كتاب منير)..وهذه الفئة هم من نخبة المجتمع وكبراء القوم،الذين يُضلّون الناس والأتباع.. إتباع هؤلاء الكُبراء وعبادتهم سببها توهّم المنفعة والمصلحة،والصحيح أنهم يُهلكون أنفسهم ويُلقونها في المضرة والخسران..  لهذا كان من المناسب تقديم (الضر)على (النفع)..

9_ (وإن يمسسك الله بضُر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير) الأنعام 17    سياق الآية يتحدّث عن الخوف من معصية الله عز وجل وما يستوجبه من عذاب في يوم القيامة.. فناسب تقديم (الضر) على (الخير)..

10_ (وإن يمسسك الله بضُر فلا كاشف له إلا هو وإن يُردك بخير فلا رادّ لفضله يُصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم) يونس 107

سياق السورة من الآية (96) يذكُر أمر الضالّين (الذين حَقّت عليهم كلمة ربك)..وقُرى المكذّبين،والبأس الذي لَحق بهم..وموقف الكفار عند لحظة الموت..وان كل شيء بإرادة الله تعالى ومشيئته..ودعوته للنظر والإعتباربالسماوات والأرض،وأن هذا التفكّر لا ينفع من أعرض عن ذكر الله.. فسياق الآيات فيه إنذار للكافرين وتخويف من عذاب الله عز وجل..لهذا ناسب أن يتقدّم ذكر (الضر) على (الخير)..

11_ (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضرّاء مسّتهم إذا لهم مكر في ءاياتنا قل الله أسرع مكراً إن رسلنا يكتبون ما تمكرون) يونس 21  لآية تتحدث عن مطلق (الناس)..ومن المعلوم أن الخطاب القرآني عندما يوجه إلى (الناس) لا يشترط فيهم الإيمان والتقوى،بل بمعنى (بني آدم) المتصفين بالبشرية والنسيان..     والأصل في البشرية هو المخالفة والكبر والأنانية والنسيان للعهد الرباني،وهذا أقرب إلى الضر منه إلى الرحمة..    فمن وكّله الله تعالى لنفسه كان ماكراً ومُتكبّراً وضالاً..والرحمة الإلهية فضل وتوفيق إلهي يُصيب بهما من شاء من الناس.. ومن المعلوم أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو (رحمة للعالمين)،فمن عرفه وأحبّه فهو في رحمة،ومن جهله وأنكره فهو في ضرّ وعذاب.. لهذا كان من المناسب تقديم (الضر) على (الرحمة)..                             12_ (ولئن أذقنه نعماء بعد ضراء مسّته ليقولن ذهب السيئات عنّي إنه لفَرح فخور) هود 10  سياق الآية يتحدّث عن طبيعة الإنسان،وما تحمله من جهل ويأس وظلم وقنوط.. فالطبيعة الإنسانية مُتكبّرة،وتظنّ أنها مالكة لزمام أمورها،تتجبّر بالنعمة وتقنط بالنقمة..فهي تفرح بالنعمة وتَترح بالنقمة.. فأكثر ما يُؤلم الإنسان هو النقمة والألم،لأنه يُفكره في الضعف الذاتي ويُذكّره بأنه لا يملك من الأمر شيئاً.. لهذا تقدم ذكر (الضر) على النعمة)..

والله اعلم

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد

ذ رشيد موعشي

965 : عدد الزوار