شرح خريطة السلوك العرفاني(3)

شرح القاعدة الثالثة من خريطة السلوك العرفاني
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه.نواصل بحول الله وقوته شرحنا لقواعد (خريطة السلوك العرفاني) لأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله،ونَحُطّ الرحال بالقاعدة الثالثة التي تقول: [ المدد والبركة تحصُلان بالإنتساب إلى سلسلة صحيحة،وهذا شرط أساسي وجوهري،لا يصل السالك بدونه إلى أي مقام من مقامات التصوف.فلا بد من أخذ العهد على شيخ واصل موصل مأذون له]. سنقوم بشرح هذه القاعدة المباركة من خلال التطرّق لمفاهيمها الأساسية،والتي تتمثّل في المفردات التالية: [المدد،البركة،سلسلةالتصوف،العهد].
1_ نبدأ بمفهوم (المَدَد): وهو لغة يعني (العَون والغوث).
وردت هذه اللفظة في القرآن الكريم (16) مرة،على إختلاف مشتقاتها، منها قوله تعالى (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنَفِد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مَدَداً).
ورد في لسان العرب عن معنى كلمة مدد: (مَدَدْنا القوم: أي صِرْنا لهم أنصاراً ومدداً)،والمَدد: العساكر التي تلحق بالمغازي في سبيل الله..
فالتعاون بين الخلائق هو (المدد)،أي المساعدة ونُصرة بعضهم لبعض..والإنسان بحاجة إلى الإستعانة بأشياء كثيرة من مخلوقات الله لتُمدّه بمدد قد سخّره الله له على أيدي خلقه..
والمدد في إصطلاح الصوفية هو: (النور الرباني الذي يُفيضه الله تعالى على قلوب أنبيائه وأوليائه من الرحمات والبركات والأسرار)..
وفيما يخص هذه القاعدة العرفانية،سننظُر لمفهوم (المدد) من حيثية العلاقة بين الشيخ والمريد..والإمداد من الشيخ للمريد يجري بثلاثة،كما ذكر الشيخ زروق،وهي (دفع المضار،وجلب المنافع،وتوجيه الخطاب).. ومستند هذا الإمداد عند أهل الله قوله تعالى (وإن إستنصروكم في الدين فعليكم النصر).. ونظراً للدور المحوري الذي يلعبه المشايخ (ونقصد بهم بالخصوص [العارفون الكمل] في حياة المريدين والتلاميذ خاصة وفي حياة الوجود عامة،سنورد بعض النقولات العرفانية توضح مكانتهم ومنزلتهم:
يقول الإمام القشيري: [ الشيوخ: هم أوتاد الأرض،فلولاهم لنزلت بأهل الأرض الشدّة].
ويقول الشيخ نجم الدين الكبرى: [ الشيخ: هو الأب الروحاني، والمريدون المُتولّدون من صلب وَلايته هم الأولاد الروحانيون،وهم فيما بينهم أولوا الأرحام]. ويقول أيضاً: [ المشايخ: هم صورة رحمة الحق تعالى].
ويقول الشيخ الأكبر: [ الشيخ: هو صاحب مقام الدعوة إلى الله ،وهو مقام الشيخوخة في حق العلماء بالله،ويُقال له (الأستاذ) والوارث للنبوة من غير أن يكون نبي،وهو الذي قالت فيه السادة من أهل طريق الله (من لم يكن له أستاذ فإن الشيطان أستاذه)]..
وأقوال العارفين في هذا الباب كثيرة ومتنوعة.. ويذكر الشيخ إبن عطاء الله السكندري بأن (الإمداد يكون بحسب الإستعداد) أي قابلية المريد للأنوار والمعارف والأسرار المُلقاة له من شيخه.. ويذكر الشيخ داود بن باخلا بأنه (ما من وقت جديد إلا وينزل فيه مدد جديد يتلقاه المريد من شيخه).. ويقول الشيخ زين الدين الخوافي: (يجب على المريد أن يرى إستمداده من شيخه الخاص هو عينه إستمداده من النبي صلى الله عليه وسلم، وأن إستمداد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحق تعالى،ليتّصل المريد بطريق أهل الله حقيقة).
ويقول الشيخ أحمد الرفاعي: (لازم باب الله،ووَجّه قلبك لرسول الله صلى الله عليه وسلم،واجعل الإستمداد من بابه العالي بواسطة شيخك المرشد). فواسطة الشيخ والأخذ عنه ضرورية في السلوك إلى الله عزوجل، يقول الشيخ عبد الكريم الجيلي:[ كل وَليّ فإنه يأخذ كل ما يأخذه عن الله بلا واسطة بحسب الظاهر،وعن الله بواسطة روحانية نبيه الذي هو على شريعته..فالله تعالى أول ما خلق حقيقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بلا واسطة..وعلى الوجه الأول لا يأخذ عن الله بلا واسطة إلا رسولنا صلى الله عليه وسلم،لأنه سيد العبيد، والعبد المقرب الذي يدخل الخلوة الخاصة بالمَلك،وهو قوله صلى الله عليه وسلم (لي مع الله وقت لا يسعني فيه مَلَك مُقرّب ولا نبي مُرسل)،وجميع ما عداه من الآخذين لا يأخذون ما يأخذونه إلا بواسطة، وهم متفاوتون في الأخذ،فمنهم: من يأخذ عنه بلا واسطة وهم الأنبياء والرسل بأجمعهم والكُمّل من وَرثته من التابعين من أمته..ومنهم: من يأخذ عنه بالواسطة..].
2_ بالنسبة لمفهوم (البركة): فهي لغة (النماء والخير)،وهي تشمل المحسوسات والمعنويات،كما أنها من ثمرات الأعمال الصالحة. وردت كلمة (البركة) في القرآن الكريم (32) مرة على إختلاف مشتقاتها،منها قوله تعالى (ولو أن أهل القرى آمنوا واتّقوا لفَتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون). وفي إصطلاح الصوفية: يقول الإمام أبو حامد الغزالي: (البركة هي التأثير الروحي الذي لا يتأتى إلا بواسطة شيخ). هذا الفيض في البركات حاصل بالتربية من المشايخ المحققين: يقول الشيخ عبد القادر الأربلي: (فيض البركات هي التربية الحاصلة من إفاضة أرواح الكُمّل إلى من هو دونهم بغير رؤية ظاهرية لهم في زمانهم أو بعد زمانهم).
ويقول الشيخ محمد أسعد الخالدي: (فيض البركات هي طريقة تربية المريد بالرؤيا المثالية) ويستمد المريد من هذه البركات،كما يقول الشيخ أحمد الرفاعي،بقدر (ما تأدّب،وحفظ الحرمة،وراقب السرّ). ونجد في إصطلاح الطريقة الكسنزانية تعريفاً للبركة يجمع بين مختلف التعريفات التي أوردها الصوفية،وهي ثلاث معاني متكاملة ومتداخلة مرتبطة ب(النور المحمدي،
وهمّة المشايخ،والذكر): المعنى الأول: البركة هي (نور الرسول) صلى الله عليه وسلم في الأشياء الموجودة والمعدومة،وعلى قدر تقبّل الشيء لإشعاعات النور المحمدي تكون بركته. المعنى الثاني: البركة هي (القوة الروحية)،وهي همّة الرسول صلى الله عليه وسلم وهمّة المشايخ في دَرْك المريد وإغاثة المُحتاج روحياً. المعنى الثالث: البركة هي (همّة الذكر)،أي نور الذكر الذي يربط القلب بالله تعالى.].
3_ أما مفهوم (سلسلة التصوف): ف(السلسلة) لغة هي (التتابع والإتصال)،وقد إستعمل الصوفية هذه اللفظة للتعبيرعن (الإتصال الروحي) بين مشايخ الطريقة الواحدة عبر الزمان،من سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الشيخ المعاصر في الطريقة المعنية..ولعل هذه اللفظة جاءت في مقابل لفظة (التواتر) النقلي لحديث أو حدث معين عند أهل الحديث وغيرهم،والتي لا تشترط الإتصال الروحي. يقول الباحث علي فهمي خشيم: [ (سلسلة التصوف) هي الخيط الروحي الذي يربط بين مؤسس الطريقة الجديدة وبين أحد مشاهير الصوفية السابقين أو جماعة منهم،ممن كان قبله، حتى يَصلُه بمصدر الإشعاع الروحي الأول في الإسلام،أعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.]. ف(السلسلة) عند الصوفية تعني (تسلسُل علاقة الشيخ بالشيخ الذي قبله)،إلى أن نصل إلى الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه،إلى مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وحديث مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الإمام علي هو (باب مدينة العلم) يُشير إلى أن الإمام علي هو طريق الوصول إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم،ولهذا السبب نجد تقريباً كل السلاسل الصوفية تمر بسيدنا علي كرم الله وجهه.. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم (من كنت مولاه فهذا علي مولاه) ــ مع العلم بأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيّ في عالم الروح وحقيقته سارية في كل ذرات الوجود ــ يُؤسّس لحاجة الناس إلى مرشد موجود في عالم الظاهر،يسمعونه ويرونه بحواسهم..فالإرتباط بشيخ في عالم الظاهر شرط أساسي من شروط سلوك نهج الطريقة. يقول الإمام الغزالي: (التأديب: إنما نعني به أن يُروّض غيره،وهو حال شيخ الصوفية مع المريدين،فإنه لا يقدر على تهذيبهم إلا بمخالطتهم، وحالُه حال المعلم). فبالإنتساب إلى سلسلة أهل الله يحصُل المدد،يقول الشيخ الشعراني: [إن المنتسب يكون كالحلقة في السلسلة لا يتحرّك في أمر إلا تحرّكت السلسلة كلها معه إلى مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم،بخلاف غير المنتسب فإنه يتحرّك وحده ويسكُن وحده].
4_ أما مفهوم (العهد): فهو لغة يعني (ميثاق،ويمين،ووَعد). وردت هذه اللفظة في القرآن الكريم (46) مرة على إختلاف مشتقاتها،منها قوله تعالى (وأوفوا بالعهد إن العهدَ كان مسؤولاً). وكلمة (عهد) عند الصوفية لها معنيان: الأول: (العهد الأول) الذي أخذه الله على أرواح بني آدم ساعة أشهدهم على أنفسهم أنه ربهم..والصوفية تُسمي هذا العهد ب(التوحيد الشهودي الخالص). الثاني:هو المعنى الذي دَرج عليه شيوخ الطرق الصوفية من إلزام المريد بالمحافظة على حقوق سلوك الطريق في الظاهر والباطن..
يقول الباحث علي فهمي خشيم:[ العهد عند الصوفية هو تأسيس علاقة متينة بين السالك وشيخ الحقيقة، وتكون بإتّفاق متبادل بين الإثنين بنوع من التعاقد يربط المريد بالشيخ أو السالك بالدليل.وهو يكون في صور كثيرة وصيغ متعددة منها: المصافحة وأخذ السبحة، ولبس الخرقة وتلقين الذكر وغيرها]. يقول الإمام الجنيد [العهد: حفظ القلب مع الله على التوحيد].
5_ وأخيراً مفهوم (شيخ التربية): سنعتمد في شرح هذا المفهوم على ما جاد به الشيخ أحمد زروق في تصانيفه القيمة،وقد جمع فيها متفرقات نفيسة تخصّ ما يُصطلح عليه (شيخ التربية)،يقول:
[ (الصفات المعتبرة في الشيخ المربي) خمسة: الأولى: (العلم بالمطلوب على وجه التحقيق والتجربة). والثانية: (البصيرة النافذة مع إسقاط الهوى). والثالثة: (العمل الثابت مع إتباع السنة). والرابعة: (الهمة العالية بترك الخلق ورفض الدنيا والنفس والهوى والشيطان). والخامسة: (الحالة الصحيحة بالإنحياش إلى الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر،بإيقافالآمال على الله فيما قلّ وجلّ).
فبالعلم يَهْدي،وبالبصيرة يُميّز،وبالعم ليُعين،وبالهمّة يُقوّي،وبالحال يرفع ويخفض ويُفرّق ويجمع. (عقلُه) لتدبيره مَعاشك،و(علمُه) لتدبيره مَعادك،و(مروءته) لتأديبك وتهذيب أخلاقك..].ويقول أيضاً:[ لا يُقتدى إلا بمن إجتمع فيه خمس خصال: (العلم والهمّة والحال والأدب والتجربة)،ولا يُقتدى بغيره،إلا أن يكون صاحب علم وإنصاف فيُؤخذ بعلمه ولا يُنظر لفعله،ولا تُسلّم النفوس له وإن كان تَقياً نَقياً،لعدم الوثوق به..]. ويقول أيضاً:[ إذا رأيت من يدّعي (المشيخة) مُتلبّساً بخمس فإحذره بغاية جُهدك:
أولها: مُوالاة السلاطين بالكلية،أو مُعاداتهم بالكلية.وعلامته في ذلك المبالغة في الثناء أوعكسه.. الثاني: غلبة الهوى عليه بالإنتصارلنفسه،وإتّساعه في التأويل لشهواته ووَقائعه بوجوه من العلم تُشْبه الحق وليست به؟ الثالث: التوسّع في الدنيا بمُضاهات أهلها والإقتداء بهم فيما هم فيه،إلا أن يكون ذلك بفَيَضان إلهي وإفادة إلهية.. الرابع: حب الرياسة،وعلامته الإسْتتباع وطلب الناس لنفسه.. الخامس: إتساع اللسان بالدعوى،والقدح في أقرانه ونظرائه من أهل الطريقة..].
ويلخص أستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله شروط المشيخة بقوله: [من شروط المشيخة والمقامات العالية (القطبانية والغوثية والختمية): المعرفة بالنبوة المحمدية والتحدّث بها..وأن تكون عنده صلاة نعتية راقية تتغزّل في الحقيقة المحمدية بالأحمدية..وان تكون سلسلته الصوفية معروفة عند الجميع..وكذلك التحقّق بإلتزامه بالكتاب والسنة، ظاهراًوباطناً..وأن يكون عارفاً بعلَل النفوس وأمراضها،وله أدويته وترياقاته الخاصة..وأن يكون مأذوناً له من طرف مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم..]. وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه.
ذ. رشيد موعشي

1٬024 : عدد الزوار