الذوق

الذوق في المعاجم اللغوية :   تشترك جلُّ المعاجم العربية،قديمها وحديثها، في أن مفهوم الذوق مرتبط بالأمور الحسية التي تفرِّق بين الحُسْنِ والقُبْح ،ولعلَّ ما يدعم هذا الرأي ورود مادة ” ذوق في كل المعاجم العربية بما يعزز ملكة الإحساس بالجمال .

ففي معجم مقاييس اللغة:  قال أحمد بن فارس(ت 395 هـ): “ذوق”: الذال والواو والقاف أصل واحد،وهو اختبار الشيء من جهة تطعُّم، ثم يشتقُّ منه مجازاً ….و في كتاب الخليل: كل ما نزل بإنسان من مكروه . فقد ذاقه.

 أما في أساس البلاغة : فقد ذكر أبو القاسم محمود الزمخشري (ت 538 ه) ما نصه: ” ذقت الطعام، وتذَوَّقْتُه شيئاً بعد شيء،وهو مرُّ المذاق، ومن المجاز: ذقت فلاناً، وذقت ما عنده،… وهو حسن الذوق للشعر إذا كان مطبوعاً عليه، وما ذقت اليوم في عيني نوماً. وذاق القوس: تعرّفها ينظر ما مقدار إعطائها. 

ربط الزمخشري بين الذوق الحسي المخصوص بتذوُّق الأطعمة و بين الذوق المجازي تذوق الشعر” و اعتبر ذلك أمراً مطبوعاً في النفس .

   وفي تاج العروس : قال مرتضى الزبيدي (ت 1205 ه) :ذوق ذاقَه ذَوْقاً، وذَواقاً، ومَذاقاً،ومَذاقَةً: اختبَر طَعْمَه وأصْله فِيمَا يَقِلُّ تَناوله… ثم أضاف: والذوق عند العارفين: منرلة من منازل السالكين أثبت وأرسخ من كل منزلة… ومن المجاز: ذاق القوس ذوقا: إذا جذب وترها اختبارا لينظر ما شدتها  أشارالزبيدي إلى أمرمهم وهواعتبار الذوق منزلة من منازل السالكين الصوفية 

  و في لسان العرب: قال ابن منظور (ت 711 ه) : الذوق مصدر ذاق الشيء يذوقه ذوقاً وذواقاً ومذاقاً، … و المذاق: طعم الشيء،والذَّواق: هو المأكول والمشروب…” ،وأضاف غير بعيد:” ذقت فلاناً و ذقت ما عنده أي خَبِرتُه، و كذلك ما نزل بالإنسان من مكروه فقد ذاقه، … و أمر مستذاق أي: مجرَّب معلوم، و الذوق يكون فيما يكره ويحمد، … الذوق يكون بالفم و بغير الفم، و ذقت القوس إذا جذبت وترها لتنظر ما شدتها. و لعل ما يستوقفنا في هذا التحديد أمران:  الأول: كون الذوق يتحقَّق بالفم وبغيره، وابن منظور لم يحدِّ د الوسائل الأخرى التي يحصل معها الذوق، فهل يقصد بالحواس الخمسة التي يشترك في معرفتها كل الناس؟ أم ثمة وسيلة أخرى  للذوق؟  الثاني: كون الذوق يفاضل بين القبيح والجميل أوعلى حد تعبير ابن منظورالذوق يكون فيما يكره ويحمد.

 في المعجم الوسيط:  ذاق الطَّعَام ذوقا وذوقانا ومذاقا: اختبر طعمه، وَيقُال:مَا ذقت نوما، وَذاق الشَّيْء: جربه واختبره فَهُوَ ذائق وذواق وأحسه،يقُال: ذاقته يَدي أحسته…، تذوَّق الطَّعَام: ذاقه مرّة بعد مرّة، وَيقُال: تذوَّق طعم فِرَاقه،الذَّوْق الحاسة الَّتِي تميزبها خَواص الْأَجْسَام الطعمية بوساطة الجهاز الحْسي فِي الْفَم ومركزه اللِّسَان، وفِي الْأَدَب والفن: حاسة معنوية يصدر عَنْهَا انبساط النَّفس أو انقباضها.لَدَى النّظر فِي أثر من آثَار العاطفة أَو الْفِكر.

  لفظ الذوق في القرآن الكريم:                                                    وردت هذه اللفظة بمختلف مشتقاتها في القرآن الكريم أكثرمن ستين مرة،وكانت  استعمالاتها حقيقة ومجازاً، أي: باعتبار الشيء من جهة تطعُّم، كقوله تعالى”فلما ذاقا الشجرة” (الاعراف)أوباعتبارالذوق مجازاً: كقوله تعالى”ومن اياته ان يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته”(الروم) وقوله تعالى”واذا اذقنا الناس رحمة فرحوا بها “(الروم 36)وقوله تعالى”ولئن اذقنا الانسان منا رحمة ثم نزعناها منه انه ليؤس كفور”(هود)وقوله تعالى”فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا انا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون”(السجدة)وقوله تعالى”ذق انك انت العزيز الكريم”(السجدة)وقوله تعالى ‘ فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون”(الدخان)

                            الذوق في التراث الصوفي:   

الذوق عند  الصوفية هو عبارة عن: علوم إلهية تُدرك إدراكا قلبيا عن طريق الذوق والكشف، لا تعلّما أو نقلا ، من كتاب أومن  سماع من أحد

يقول الإمام القشيري” … ومن جملة ما يجري في كلامهم: الذَّوق, والشرب، و يعبِّرون بذلك عما يجدونه من ثمرات التجلِّي, و نتائج الكشوفات،وبواده الواردات. وأول ذلك: الذَّوق,ثم الشرب,ثم الريُّ،فصفاء معاملاتهم يوجب لهم ذوق المعااني ووفاء منازلهم يوجب لهم الشرب،ودوام مواصلاتهم يقتضي لهم الريُّ، فصاحب الذَّوق.متساكر,وصاحب الشرب سكران,وصاحب الريّ صاح .ومن ثم كان مقام الرَّي أعلى من مقام الشرب،ومقام الشرب أتمَّ من مقام الذوق.

    أما الشريف الجرجاني فيفرق بين معنى الذوق الذي يتقاسم دلالته عامة المعجميين وبين الذوق الصوفي الذي لايدرك كنهه إلامن اتصف به.  يقول الشريف الجرجاني:الذوق: هي قوة منبثة من العصب المفروش على جرم اللسان تدرك بها الطعوم بمخالطة الرطوبة اللعابية في الفم بالمطعوم ووصولها إلى العصب،والذوق في معرفة الله:عبارة عن نورعرفاني يقذفه الحق بتجليه في قلوب أوليائه،يفرقون به بين الحق والباطل من غيرأن ينقلوا ذلك من كتاب أو غيره.  

   و يرى أبو الحسن الهجويري أن لا فرق بين الذوق و الشرب،إذ يساوي بينهما أو يكاد يحصر الفرق بينهما في الاستعمال فقط: فالشرب لا يستعمل إلا فيما كان لذة أو راحة كأن يقال:شربت بكأس الوصال وكأس الوداد، بخلاف الذوق فإنه يستعمل في اللذة وفى المشقة على السواء،فيقال: ذقت الراحة، وذقت البلاء، وذقت الخوف. 

 أما الشيخ محيي الاكبر: فيرى الذَّوق نتيجة المجاهدة الروحية وهو ثمارها، يقول: العلم الذوقي: علم نتائج المعاملات والأسرار،وهو نور يقذفه الله تعالى في قلبك اهــ. و يضيف شرحاً مستفيضاً لمراد الصوفية من ربطهم الذوق بالتجلي،يقول فيه:  اِعلم أن قولهم الذوق أول مبادئ التجلي إعلام أن لكل تجلٍّ مبدأ هو: ذوق لذلك التجلي؛ وهذا لا يكون إلا إذا كان التجلِّي الإلهي في الصورة أو في الأسماء الإلهية أو الكونية ليس غير ذلك، فإن كان التجلي في المعنى فعين مبدئه: عينه، ما له بعد المبدإ حكم يستفيده الإنسان بالتدريج،كما يستفيد معاني تلك الصورة المتجلي فيها .ويربط ابن عربي الذوق بالتجلي،يقول : إن الذوق يختلف باختلاف التجلي، فإن كان التجلي في الصور فالذوق خيالي، وإن كان في الأسماء الإلهية و الكونية فالذوق عقلي،فالذوق الخيالي أثره في النفس والذوق العقلي أثره في القلب ،فيعطي حكم أثر ذوق النفس المجاهدات البدنية من الجوع و العطش،يعطي حكم ذوق العقلي الرياضات النفسية وتهذيب الاخلاق. 

       أما السهروردي فيرى أن الذوق هو لأرباب البَوَادِه(أي: الإشارات الفجائية الخاطفة التي ترد على قلب الصوفي لحظة فنائه.)والشرب: علم،وهول لأرباب الطوالع واللوائح واللوامع وهى أكثر دواماً وثباتاً من البَوَادِه التي هي حظ الذائقين،أما الري” فهو لأرباب” الأحوال” لأن الأحوال تستقر،وما لايستقرفليس بحال .

ويعرِّف الشيخ عبد الرزاق القاشاني الذوق بقوله:هو أول درجات شهود الحق بالحق في أثناء البوارق المتوالية عند أدنى لبث من التجلي البرقي،فإذا زاد وبلغ أوسط مقام الشهود سمي شرباً،فإذا بلغ النهاية سمي رياً،وذلك بحسب صفاء السر عن لحظ الغير.اهــ.  

 و يرى الكمشخانوي أن الذوق : أن الذوق نهاية المراقبة وبداية المشاهدة،فيرقى عن الصوم عن مذاق الأسرار،والإمساك عن تلميح بوادي الأنوار،والاتسام بسمات الانقطاع والإخلاء عن الارتقاء .    

وخلاصة القول،الذوق ملكة فطرية ليست للبشرجميعاً،فهم يتفاوتون في هذه الملكة،وإلى هذا أشارأبوحامد الغزالي في قوله:”وإن أردت مثالاً ماتشاهده من جملة خواص بعض البشر فانظرإلى ذوق الشِّعْر كيف يختص به قوم من الناس وهو نوع إحساس وإدراك،ويحرم عنه بعضهم،حتى لا تتميَّزعندهم الألحان الموزونة من المنزحفة.وانظركيف عظمت قوة الذوق في طائفة حتى استخرجوا منها الموسيقى والأغاني والأوتار وصنوف الدستانات،التى  منها المحزن،ومنها المطرب،ومنها المنَوِّم،ومنها المضحك،ومنها الموجنن ومنها القاتل،ومنها الموجب للغشي. وإنما تقوى هذه الآثار فيمن له أصل الذوق.وأما العاطل عن خاصية الذوق فيشارك في سماع الصوت وتضعف فيه هذه الآثار،وهو يتعجَّب من صاحب الوجد والغشي،ولواجتمع العقلاءكلُّهم من أرباب الذوق على تفهيمه معنى الذوق لم يقدروا عليه اهــ 

فالمعرفة التي تصدرعن الأذواق لا تدرك معانيها إلا لمن كانت له دراية ومعرفة بعلوم الصوفية،فمن لم يذق قط العسل كيف تشرح له حلاوته ومن لا معرفة له   بالجماع كيف تبين له ذوقه فلا يفهم بالقول والكتابة .فكما قيل الاذواق لا توخذ من الاوراق “قف حيث وقفوا ثم ذق واحكم” و الى هذا المعنى أشار بعضهم:  

                  مَنْ ذَاقَ طَعْمَ شَرَابَ القَوْمِ يَدْرِيهِ=وَمَنْ دَرَاهُ غَدَا بِالرُّوحِ يَشْرِيهِ           

              وَذُو الصَّبَابَةِ لَوْ يُسْقَى عَلَى عَدَدِ الأَن= فَاسِ،والْكَوْنِ كَأْساً لَيْسَ يَرْوِيهِ            

  فالوصول الى تذوق اذواق الصوفية لا يتأتى الا بصحبة العارفين أصحاب الاذواق من سلكوا الطريق ،وذاقوا. ذة أم ايمن.

897 : عدد الزوار