شرح القاعدة السابعة

بسم الله الرحمن الرحيم.الحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه. نواصل شرح القواعد المباركة من (خريطة السلوك العرفاني) لأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله،وقاعدة هذه الحلقة تقول:

[ (الذكر الفردي والجماعي): يُساعداك في السّير وفي الترقّي كثيراً،فلاتهجٌرهما. و(المُذاكرة)ضرورية،تُفيد السالك وتَقيه المَهالك،فيفهم كلام شيوخ التصوف وإشاراتهم. و(يُسلّم للقوم أحوالهم) ما لم يُخالفوا الشرع،فإن خالفوا الشرع فليكُن مع الشرع]. سنقوم بشرح القاعدة من خلال مسائلها ومصطلحاتها الأساسية،ونُجملها في التالي: _ مفهوم (الذكر)،وعلاقته بالسّير والترقّي. _ مفهوم (المُذاكرة)،وعلاقتها بعلم التصوف وفهم كلام شيوخ التربية وإشاراتهم.. _ مسألة جواز سقوط (العارف) في المُخالفة (الظاهرية)..
1_ (الذكر):هو سرّ التصوف وروحه..وهو جوهر الرياضات الروحية..وهو قوت القلوب،وسفينةالنجاة،ومنشورالوَلاية..وهو معراج العبد،وبه يحصُل حضور القلب مع الله..ومن أشرقت بدايته بذكر الله،أشرقت نهايته بمعرفة الله.. وللذكر طرق وأشكال متعدّدة،منها: الجماعي والفردي،والجهري والسرّي،والمقيّد بعدد والمطلق.. يقول الشيخ الشعراني: [ الذكر (المنفرد) أنْفَع لأصحاب الخلوة، والذكر(جماعة) أنفع لمن لا خلوة له،والذكر (جهراً) أنفع لمن غلبت عليه القسوة من أصحاب البداية،والذكر(سرّاً) أنفع لمن غلبت عليه الجمعية من أصحاب السلوك].. ومن شرطه:

كما يقول الشيخ البسطامي: [ أن يأخُذه الذاكر ب(التّلقين) من أهل الذكر (وهم: أهل الفهم عن الله والعلماء بالله)،كما أخذه الصحابة بالتلقين من رسول الله صلى الله عليه وسلم،ولقّن الصحابة التابعين.والتابعون لقّنوا المشايخ،شيخاً بعد شيخ،وإلى أن تقوم القيامة]. وللذكر،عامة،ثلاثة أقسام:

يقول الشيخ أحمد بن عجيبة: [ ذكر العامة ب(اللسان)،وذكر الخاصة ب(الجنان)،وذكر خاصة الخاصة ب(الروح والسرّ)..]. وللذكر (شروط وأقسام ومراتب وآداب وأحوال وآفات وخواص..)،وهي مبسوطة في كتب التربية عند أهل الله،وتحدّث عنها العارفون بإستفاضة لأهميّتها وضرورتها في السلوك والتزكية..و(الذاكرون) تختلف (مراتبهم وأحوالهم وأصنافهم وأقسامهم..) تبعاً لمقومات وشروط الذكر،بين كمالها أو نقصها.. وأدلته من الكتاب والسنة وأقوال العارفين كثيرة ومتنوعة،نذكر منها: قال الله تعالى: (فاذكُروني أذكُركم واشكروا لي ولا تكفرون)،وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً)..

وعن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مَليككُم،وأرفعها في درجاتكم.خير لكم من إنفاق الذهب والفضة،وخير لكم من أن تلقوا العدو فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم)؟ قالوا: بلى يا رسول الله.قال صلى الله عليه وسلم: (ذكر الله).

يقول إبن عباس: [ إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، وعذر أهلها في حالة العذر.أما (الذكر) فإن الله تعالى لم يجعل له حداً ينتهي إليه،ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على تركه،قال تعالى (فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم)].

يقول الشيخ الجنيد: [الذكر: هو منشور الولاية،فمن أعطي المنشور فقد أعطي الولاية،ومن سُلب المنشور فقد سُلب الولاية].

يقول الإمام القشيري: [ الذكر: هو طريق الحق سبحانه،فما سلك المريدون طريقاً أصحّ وأوضح من طريق الذكر،وإن لم يكن فيه سوى قوله تعالى (أنا جليس من ذكرني) لكان ذلك كافياً / الذكر ركن قوي في طريق الحق تعالى،بل هو العمدة في هذا الطريق..ولايصل أحد إلى الله تعالى إلا بدوام الذكر].

يقول الإمام النووي: [ الذكر: هو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده ما لم يقفله العبد بغفلته].

يقول الشيخ أبو الحسن الشاذلي: [ الذكر: هو الركن الأساسي في طريق القوم،وهو مُؤسّس على (الإخلاص والتوبة والعبودية والإستقامة)،ومُثمر (للورع والزهد والتوكل والرضا والمحبة)].

يقول الشيخ إبن عطاء الله: [ إن ذكر الله تعالى مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح..وهو العمدة في الطريق،ومُعوّل أهل التحقيق].

يقول الشيخ أبو نصر الجوهري: [ الذكر: هو العروة الوثقى، والطريق الذي لا يضلّ من سَلكه ولا يشقى.إذ لا يصل المُحبّ الصادق إلا بملازمة ذكره،ولا يعتمد المريد السالك إلا على مُداومة شُكره.وهو حصن الله الأعظم الذي من دخله كان آمناً من شياطين الإنس والجن].

يقول الشيخ عبد الله الهروي [ الذكر: هو التخلّص من الغفلة والنسيان]. يقول الشيخ عبد الرحمن الصفوي: [ الذكر: هو ترياق المُذنبين،وأنس المنقطعين، وكنزالمتوكلين، وغذاءالموقنين، وحليةالواصلين،ومبدأ العارفين،وبساط المقربين،وشراب المحبين]. و(الذكر)عند الشيخ الأكبر: لا يقف عند حدود تلفّظ مُعيّن مميّزاً بإسم الذكر،بل كل ما في الوجود يَذْكُر بالحق،إذ نستطيع أن نَعْبُر من خلاله إلى الحق.فكل موجود هو مَجْلى يوصل للمُتجلّي فيه..

2_ (المُذاكرة): المُذاكرة من أعمدة طريق التصوف..وقدإعتبرها إبن عجيبة أعظم من (الذكر)،لأن فيها (علماً وذكراً) لله.و(مجالس الذكر) تصدُق بمجلس (العلم والذكر والمُذاكرة)..

وقد قال بعضهم: [ الصوفية بخير ما إختلفوا ].ولهذه القولة تأويلين: الأول أن المُراد (إختلاف تَنْبيه وإرْشاد)،فكل واحد يُرشد صاحبه ويُنَبّهه إذا رأى فيه نقصاً وعيباً،فإذاإتّفقوا وسَكتوا على عُيوبهم فلا خير فيهم. والثاني قد يُحْمَل على (حال مُذاكرتهم في العلوم)،فقد قالوا فيهم: (ألسنتهم حادة،وقلوبهم سالمة)،ولا شك أن حال المُذاكرة لا ينبغي فيها التّسليم في كل شيء،إذ لا تخرج العلوم إلا ب(الحَكّ والبحث والتّفتيش)..

وكان الشيخ مولاي العربي الدرقاوي يقول لإبن عجيبة:(لا تُسَلّم لنا في حال المُذاكرة).. فبالمُذاكرة يُستفاد العلم،وتُشحذ العقول،وتُمحّص النفوس..وبالخُلطة والمُذاكرة تظهر خفايا الأخلاق ومكامن العِلَل (المعرفية والنفسية).. وقد قال مولاي العربي الدرقاوي في (رسائله): [..وحين فرغ ( أي شيخه سيدي علي الجمل) من هذا (أي تلقينه الإسم الأعظم)،قال لي: (إمْشِ وجيء)،فكنت على ذلك كل يوم نجتمع به فيُذكّرني مع بعض الإخوان من أهل فاس..فبقيت معه على حال التذكير إلى أن توفي رحمه الله تعالى..فلما رأيت فضل (المُذاكرة) وسرّها وخَيْرها،تولّعت بها،ومن ذلك الوقت وأنا عليها مع أهل محبّتي..].
3_ (المُخالفة):نُناقش هذه المسألة في مبحثين: (المبحث الأول): جواز سقوط العارف في (المعصية) أو (الخطأ): تناول العارفون هذه المسألة في تعرّضهم للفرق بين (العصمة) و(الحفظ): العصمة للأنبياء والرسل،والحفظ للأولياء.. ويبيّن الإمام القشيري الفرق بينهما بقوله: [ (المعصوم) لا يُلمّ بذنب ألبتّة.و(المحفوظ) قد تحصُل منه هنّات،وقد يكون له ــ في النّذرة ــ زلاّت،ولكن لا يكون له إصرار،أولئك الذين يتوبون من قريب]. ويقول الشيخ أبو العباس المُرسي،في الفرق بين معصية المؤمن ومعصية الفاجر: [الفرق بينهما من ثلاثة أوجه: المؤمن لا يَعْزِم عليها قبل فعلها،ولا يفرح بها وقت الفعل،ولا يُصرّ عليها بعد الفعل.والفاجر ليس كذلك]. وقد أجاب الإمام الجنيد عندما سُئل: (أيزني العارف؟) فقال: (وكان أمر الله قدراً مقدوراً).. ويقول الشيخ باراس الكندي في شرحه للحكم العطائية: [..إن زلاّت العارفين وهفواتهم غالباً في (الرّخص والمباحات)،وعلى النّدور تكون في (كبيرة)،وحيث كانت فهُم (يُطالعون سابق العلم)،على علم منهم قبل وقوعها على يدهم أنها ستكون ولا بُدّ،إما بأن يشهدوا ذلك في أمّ الكتاب مُسطّراً أو يُحدّثوا به بلا إمتراء.ولكن الله يَقْرنُ لهم (البُشرى بقَبول توبتهم وغفران ذنوبهم)،فلذلك (حَجّ آدم موسى)،ولو لم يكن ذلك لذابَت أرواحهم وتلاشت أشباحهم (حياءً وتعظيماً)..].

ويقول الشيخ الأكبر: [ العارف: في كل نفس تائب إلى الله في جميع أفعاله الصادرة منه،توبة شرعية وتوبة حقيقية.فالتوبة الشرعية هي التوبة من (المُخالفات)،والتوبة الحقيقية هي (التبرّي من الحول والقوة) بحول الله وقوته.فلم يَزل العارف واقفاً بين التوبتين في الحياة الدنيا في دار التكليف].

ولما سُئل الشيخ أحمد بن إدريس: هل أهل الطريقة جميعهم عارفون بالشريعة ولا يُفتون إلا بها،أم لا؟ فأجاب: [ إن منهم من يكون عالماً ومن لا يكون.والعالم منهم يكون نُطقه إذا أفتى بالكتاب أو بالسنة. والذي ليس بعالم قد يأتي بلفظ يُصيب به المعنى المقصود من الشارع،لكن بعض إصابة،وقد يُخطئ بذلك اللفظ المعنى الذي أراده الشارع لأنه ليس بمعصوم،إذ لا يكون معصوماً إلا كلام الله تعالى أو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم..]. (المبحث الثاني): (الأحوال) التي تبدو في ظاهرها مُخالفة للشرع: وقد لخّص الشيخ زروق هذه المسألة في (قواعده) بقوله: [ مَبْنى (العلم) على البَحْث والتّحقيق،ومَبْنى(الحال) على التّسْليم والتّصديق.فإذا تكلّم العارف من حيث العلم نُظر في قوله بأصله من الكتاب والسنة وآثار السلف،لأنّ العلم مُعتبر بأصله.وإذا تكلّم من حيث الحال (سُلّم له ذوقه)،إذ لا يوصل إليه إلاّ بمثله،فهو مُعتبر بوجدانه.فالعلم به مُسْتند لأمانة صاحبه،ثمّ(لا يُقتدى به)،لعدم حُكمه إلا في حقّ مثله ].. وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد

الفقير الى عفو ربه رشيد موعشي

952 : عدد الزوار