أقطاب الطريقة الدرقاوية

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد،وعلى مولاتنا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين،وعلى سيدتنا خديجة الكبرى أم المؤمنين،وعلى آله وصحبه أجمعين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. موضوعنا حول أربعة من العارفين المشهورين،يُشكلون سلسلة صوفية ذهبية في طريق القوم..الشيخ علي الجمل الذي تربى على يده الشيخ الدرقاوي والذي تتلمذ على يده الشيخ البوزيدي استاذ الشيخ ابن عجيبة

 (الشيخ عليّ الجَمَل العمراني)هو أبو الحسن علي بن عبد الرحمن، شريفإدريسي،حسنيمن شُرفاء بني عمران . وُلد سنة 1088هـ. أخذ طريق القوم عن الشيخ مولاي الطيّب الوزاني،وخَدمه مدّة،ثم بَعثه الى فاس، فلازَم العارف سيدي العربي مْعَنْ الأندلسي، ستة عشر عاماً إلى أن توفي،ثمّ إستقلّ بنفسه وبَنى زاويته بالرّميلة فكَثر أتباعه، وكان مُستغرقاً في رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقظة ومناماً،قال عنه تلميذه مولاي العربي في (الرسائل) (والله ما كان شيخنا مولاي علي الجمل إلا أكبر إستغراقاً في ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي العباس المُرسي،إشارة الى قول المرسي :والله لو غاب عني رسول الله طرفة عين ماعددت نفسي من المسلمين.ويقوا أنه أدرك القُطبانية العظمى،يقصد الغوثية. توفي رضي الله عنه  سنة 1193هـ،عن عمر ناهز مائة وستة أعوام،ودُفنَ بزاويته بفاس بحومَة الرميلة ،قبره بها مشهور يُزار.
(مولاي العربي الدرقاوي): هو أبو عبد الله محمد العربي بن أحمد الدرقاوي الزّروالي،الشريف الحسني.. ، كانت له درقة يتّقي بها في الحرب، فلقب بأبي درقة. ولد سنة (1159 هـ) بقبيلة بني زروال. وبها نَشأ وتَعلّم القراءة وحَفظ القرآن الكريم.وأتقَنه بالروايات السبع،ثم رَحل لمدينة فاس وأقام بها مدة قرأ خلالها على أكابر علماء وَقته ما قدّر الله له من العلوم. وكان في أيام طلبه للعلم،مُثابراًعلى مجاهدة نفسه وحَملها على العبادة،مع فَطمها عن المخالفات، ويَحكي مولاي العربي أنه كان في ذلك الإبّان كثير الزيارة لأضرحة الأولياء، ،ولا سيما ضريح مولاي إدريس دَفين فاس ومولاي عبد السلام بن مشيش. وفي ذلك الوقت تاقَت نفسه لطلب الشيخ المُربّي،فجعل يبحث عنه ويطلب الله عز وجل أن يجمعه به ،فهَداه الله تعالى للإجتماع بسيدي عليّ الجَمل ،وثابَر على الإسم المفرد حتى فَني في الله تعالى وتَحقّق وشاهَد رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقظة في أوائل أمره وفَتح الله تعالى عليه الفتح الأكبر في مدّة وَجيزة،وفوجِئَ بعلوم ومعارف كالبحار حتى أصبح كما يقول في (الرسائل): (إنّي تَبحّرت في العلم تَبحّراً عظيماً،حتى أنّي لو سُئلت عن ألف مسألة لأجَبت عنها جواباً بالغاً،إذ صِرْتُ كالمصباح،فلو شُعِلَ منّي جميع المَصابيح لم يَنقُص من ضَوئي شيء..). ولما توفي شيخه عليّ الجمل،إستقلّ بالمشيخة والإرشاد والتربية،يقول عنه الشيخ عمر بن سودَة: (ما توفي الشيخ مولاي العربي حتى خَلّف نحو الأربعين ألف تلميذ،كلّهم مُتأهّلون للدلالة على الله تعالى). ومن اكبر تلامذته الشيخ (محمد البوزيدي)،والشيخ (محمد الحرّاق)،وغيرهما توفي مولاي العربي سنة 1239هـ ودُفن بزاويته ببني زروال .

(الشيخ محمد البوزيدي): هو محمد بن أحمد البوزيدي،الشريف الحَسني. ولد بقبيلة بني سَلمان الغُماريّة،وبها نشأ وشَبّ. ولما قرأ القرآن الكريم،إنقطع لعبادة الله تعالى والسياحة سِنيناً طويلة،ثم أخذ الطريقة عن مولاي العربي ولازَم خدمته،نحو ستة عشر عاماً،ثم أذن له شيخه في الإرشاد والتربية،والرجوع إلى قبيلة بني سلمان،.

ترك  الشيخ البوزيدي قصيدتان(في آداب الطريق) وهما رائيّته وتائيّته ،وكتابه (أدب المريد) ،مع أنه كان كما حَدّث عن نَفسه بقوله (ما جَلست قط مَجلس علم،فما هو إلا علم لدني). وكان يقول عنه  شيخه مولاي العربي، (مقام الشيخ البوزيدي مقام الأفراد.. توفي رحمه الله سنة (1129هـ) ،في حياة شيخه مولاي العربي الدرقاوي،بقبيلة بني زيات الغُمارية .

 ( الشيخ أحمد بن عجيبة): هو أحمد بن محمد بن عجيبة،الشريف الحسني.. وُلد سنة 1160هـ بقرية أعجيبش من قبيلة حوز تطوان،وبها نشأ وحفظ القرآن الكريم، وحفظ عدّة مُتون علمية،وإلتحق لطلب العلم بمدينة القصر الكبير،وبَقي فيه مدّة سنتين،ثم رحل لتطوان فتابَع دراسته على كبار علمائها..،حتى حَصّل علوماً كثيرة،من نحو وصرف وبيان ومنطق وكلام وفقه وتفسير وحديث وتصوف وأصول وتنجيم وغيرها. ثم رحل لفاس فتابع دراسته العُليا بها،ثم رجع قافلاً لتطوان فانقطع للعبادة ولَزم الخلوة والعزلة،وعَمّر أوقاته بذكر الله تعالى ..

ثم رجع  لفاس لزيارة من بها من أشياخها وصلحائها،فمَرّ في طريقه عند رجوعه على بني زروال،فزار القطب مولاي العربي الدرقاوي فقال له (جعلك الله كالجيلاني).واما العارف بالله محمد البوزيدي. فقال له : (جَعلك الله كالجُنيد يَتبعك أربع عشرة مائة مُرقّعة. والله ليكوننّ لك أمر عظيم، ولتكوننّ جامعاً بين الحقيقة والشريعة). فقال له إبن عجيبة: وهذا هو التصوف. فقال له البوزيدي: هذا تصوف أهل الظاهر،وبَقي تصوف أهل الباطن ستعرفه إن شاء الله تعالى). ولذلك لإن إبن عجيبة ، كانت فيه بقايا عِلَل نفسانية،وعلى الأخصّ حب الرئاسة العلمية والجاه فكان يحتاج  الى مجاهدة النفس وتربيتها فأمره شيخه البوزيدي أولاً بلَبس المُرقّعة والزهد في الدنيا ،فخَرج عن ماله وباعَ كل ما كان يملكه حتى خزانة كُتبه باعها وأنفقها على شيخه.. وأمره بالسّؤال فكان يجلس بأبواب المساجد مع الفقراء والعُميان والنّسوان،ويَمُدّ يَده للناس مع الإلحاح،ومَعارفه وتلامذته يُغَطّون وجوههم ويَنفرون حَياء منه..

وهكذا بَقي في هذه المجاهدة والرياضات حتى فَتح الله عليه الفتح الأكبر ،خرج بأمر شيخه للسياحة لإرشاد الناس وتذكيرهم وتلقينهم الأوراد، فتجوّل في كثير من قبائل المغرب حتى بلغ الرباط وسلا،ودخل معه في الطريق من كل قبيلة ما لا يُحصَون كَثرة.. وكان له  حسدة كثر  شكلوا له مشاكل كثيرة ولكن الله نجاه منهم وجعل الغلبة له عليهم  واستقر يه   المقام  بالزّميج حيث بنى داره وزاويته. توفي إبن عجيبة سنة 1224هـ،في حياة شيخه البوزيدي وشيخ شيخه مولاي العربي..

__ نستخلص من هذه (السلسلة الذهبية) أربع مسائل عرفانية:

1_ (المسألة الأولى / النّسب الشريف): إشتراك العارفين المُترجم لهم في النّسب الحسني الشريف،فهم من أهل البيت المُكرمون المُطهّرون..

وأهل البيت نوعين: الأول بحسب النّسَب،وهم أبناء مولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام. والثاني بحسب النّسبة،وهم كما جاء في الخبر (آل النبي كل تقيّ)،وقوله صلى الله عليه وسلم (سلمان منّا أهل البيت) وهو بيت العلم والمعرفة والحكمة،وهو ما يُسمّى بالنّسب المعنوي،وهو لأصحاب الوراثة المحمدية من العارفين خصوصاً (أهل الرّقائق والتّغزّلات الأحمدية)..

يقول الشيخ الأكبر إبن عربي: [ولمّا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (عَبداً مَحضاً)،قد طَهّره الله وأهل بيته تَطهيراً،و(أذْهَب عنهم الرّجس) وهو كل ما يَشينُهم.. قال تعالى (إنما يُريد الله ليُذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويُطهّركم تطهيراً) فلا يُضاف إليهم إلا مُطَهّر،ولا بُدّ. فإن المُضاف إليهم هو الذي يُشبِههم،فما يُضيفون لأنفسهم إلا من له حُكم (الطّهارة والتّقديس).

2_ (المسألة الثانية / العارفون الأميون): وهم كما قال الإمام الشعراني: [ الذين لم ينتقش في مرآتهم شيء من العلوم الفكرية والنظرية،فكانت على أصل فطرتها في الصفاء. فينطقون بجوامع الكلم بحسب ما أعطوه من الإرث المحمدي،فيختصرون على المريد الطريق]. وقد اشار الشيخ البوزيدي الى هذا بقوله : (ما جَلست قط مَجلس علم،فما هو إلا علم لدني).. كما ان الشيخ علي الجمل كانت معارفه لدُنية،وليست عن فكر ومطالعة كتب ومُجالسة علماء..

3_ (المسألة الثالثة / تطور المعارف): وهو أن المعارف في تطور ورُقيّ وصعود،تبعاً للتجليات الإلهية التي لا تتكرّر ولها الرقيّ..فالقطب الغوث الحالي أرقى معرفة وتحقيقاً من القطب الغوث السابق..

وهذا ما يُشير إليه الشيخ أحمد التجاني في صلاته (جوهرة الكمال) عند قوله (صراطك التام الأسقم)،فقد فسّرأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله هذه الصلاة النعتية شرحاً غير مسبوق.. وعند تناوله لكلمة (الأسقَم) ذكر بأن لها ثلاث مستويات أو إستنادات:

أولاً: (الأسقم) راجعة في هذه الصلاة على (مقامات العارفين)،سواء الأحياء منهم أو الذين إنتقلوا إلى جوار الله. فكلما إزداد الزمن وتغيّرت التجليات،سَقُمت وضَعُفت المعرفة التي حازوا عليها في تنقيباتهم المحمدية وتغزّلاتهم الأحمدية. قال تعالى (ففهمناها سليمان) فهم لم يكن عند سيدنا داود.

ثانياً: (الأسقم) كذلك راجعة على (السالك) الذي يتربّى بصلاة لم تعُد تُساير التجليات الإلهية،فيكون سَيره بطيئاً..

ثالثاً: (الأسقم) أيضاً تعود على (الصراط) الذي إبْتَلعهم وطَبَعهم بلَونيّته،فهُم غير مُتساوون في معرفتهم به وفي الأخذ من حَضرته..

فلكل زمان خَتمُه،للوُسع الإلهي،ولا يأتي الزمن إلا بمن هو أرقى وأكبر.. حتى فتوحات زمننا هذا سيأتي عليها زمان تتّصف فيه بالسّقم والعجز والنّقص..

ومن أمثال هذه الحكاية: أن شخصاً عزم على الشيخ أبا العباس المرسي،فقدّم له طعاماً يختبره به،فأعرض الشيخ عنه ولم يأكله،ثمّ إلتفت إلى صاحب الطعام فقال:[إن كان الحارث بن أسد المحاسبي كان في أصبُعه عرق إذا مدّ يده إلى طعام فيه شُبهة تحرّك عليه،فأنا في يدي ستون عرقاً تتحرّك عليّ إذا كان مثل ذلك]،فإستغفر صاحب الطعام وإعتذر إلى الشيخ والأمثلة كثيرة في كتب القوم،والتي تُزكّي الإشارة إلى ترقّي المعارف والمقامات..

(المسألة الرابعة / إحياء الوارث لطريقة شيخه): حقيقة الوارث،كما يقول الشيخ إبن عطاء الله السكندري في كتابه (لطائف المنن): [إعلم أن (الوارث للرجل) هو (الظاهر بعلمه وحاله)،وهوالذي تظهر طريق الموروث على يديه: (يُفسّرمُجْمَلها ويَبْسط مُختصرها،يرفع منارها ويبُثّ أنوارها)،يُعرّف الناس بما كان ذلك الرجل الكبير عليه من العلم بالله والمعرفة ،حتى إذا فرّط الناس في محبة ذلك الرجل الكبير وتعظيمه في حال حياته إستدركوا ذلك بعد وفاته،لأن كل ما هومقدور عليه مزهود فيه وكل معجوز عنه مُتَطلّع إليه بالشّغف،

حتى لقد سمعت الشيخ أبا العباس المرسي يقول: (يكون الرجل بين أظهرهم فلا يُلقون إليه بالاً،حتى إذا مات قالوا: كان فلان.وربما دخل في طريق الرجل بعد وفاته أكثر مما دخل فيها في حياته)..]..  إستخلصنا هذه المسألة الرابعة ممّا أوردناه حول مولاي العربي الدرقاوي،وبأنه المحور الذي تدور عليه فرق الشاذلية،ويعتبر المُجدّد لها والمُحيي لمَعالمها.. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد،وعلى آله وصحبه.

663 : عدد الزوار