الأنبياء نُوّاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم


اعلم أنه وَرد في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أنا سيد ولد آدم ولا فخر).. وفي صحيح مسلم (أنا سيّد الناس يوم القيامة). فثَبتت له (السيّادة والشّرف) على أبناء جنسه من البشر. وقال صلى الله عليه وسلم (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين) يُريد أنه كان على علم بذلك. فأخبره الله تعالى بمَرتبته،وهوروح،قبل إيجاده الجسام الإنسانية. كما أخذ الميثاق على بني آدم قبل إيجاده أجسامهم. وألحَقنا الله تعالى بأنبيائه،بأن جعلنا شُهداء على أمَمهم معهم،حين يبعث من كل أمة شَهيداً عليهم من أنفسهم،وهم الرّسل. فكانت الأنبياء في العالَم (نُوّابه) صلى الله عليه وسلم،من آدم إلى آخر الرّسل.
وقد أبانَ صلى الله عليه وسلم عن هذا المَقام بأمور،منها: قوله صلى الله عليه وسلم (والله لو كان موسى حياً ما وَسعه إلا أن يتّبعني)،وقوله في نزول عيسى في آخر الزمان (إنه يَؤمُّنا منّا) أي يَحكُم فينا بسنّة نبينا صلى الله عليه وسلم.. ولو كان سيدنا محمد قد بُعثَ في زمان آدم،لكانت الأنبياء وجميع الناس تحت حُكم شريعته إلى يوم القيامة حِسّاً. ولهذا لم يُبعَث عامة إلا هو خاصّة،فهو (المَلِك والسيّد). وكل رسول سواه فبُعث إلى قوم مخصوصين.. فمن زمان آدم إلى زمان سيدنا محمد،إلى يوم القيامة: (مُلْكُه). و(تَقدّمه) في الآخرة على جميع الرّسل و(سيّادتُه): مَنصوص على ذلك في الصحيح المَرويّ عنه.
فروحانيته صلى الله عليه وسلم موجودة وروحانية كل نبي ورسول. فكان (الإمداد) يأتي إليهم من تلك الروح الطاهرة،بما يَظهرون به من (الشرائع والعلوم) في زمان وجودهم رُسلاً.. لكن لمّا لم يتقدّم في عالَم الحِسّ وجود عَيْنه صلى الله عليه وسلم،أولاً،نُسِبَ كل شَرع إلى من بُعثَ به،وهو في الحقيقة شَرع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،وإن كان مفقود العَيْن من حيث لا يُعْلَم ذلك،كما هو مفقود العَيْن الآن،وفي زمان نزول عيسى والحُكم بشَرعه.
وأما نسخ الله بشرعه جميع الشرائع،فلا يُخرج هذا النسخ ما تقدّم من الشرائع أن يكون من شرعه. فإن الله قد أشْهَدنا في شرعه الظاهر،المُنزل به في القرآن والسنة،النّسخ،مع إجماعنا وإتفاقنا على أن ذلك المنسوخ شرعه الذي بُعث إلينا..
فخرج من هذا المجموع كله أنه (مَلك وسيّد) على جميع بني آدم،وأن جميع من تقدّمه كان (مِلكاً له وتبعاً)،والحاكمون فيه (نُوّاب عنه).. فإن قيل: فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني)؟ فالجواب: نحن ما فضّلناه،بل الله فضّله،فإن ذلك ليس لنا. وإن كان قد ورد: (أولئك الذين هدى الله فبهُداهمإقتده) لما ذكر الأنبياء،فهوصحيح،فإنه قال (فبهُداهم)،وهُداهم من الله،وهو شرعه صلى الله عليه وسلم،أي (إلزم شرعك الذي ظهر به نُوابك،من إقامة الدين،ولا تتفرّقوا فيه)،فلم يقل (فبهم إقتده). وفي قوله (ولا تتفرقوا فيه) تنبيه على أحدية الشرائع. وقوله: (إتبع ملّة إبراهيم)،وهو الدين،فهو مأمور بإتباع الدين،فإنالدين إنما هو من الله لا من غيره. وانظروا في قوله صلى الله عليه وسلم: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) فأضاف الإتباع إليه،وأُمِر هو صلى الله عليه وسلم بإتباع الدين وهَدْي الأنبياء لا بهم،فإن (الإمام الأعظم إذا حضر لا يبقى لنائب من نُوابه حكم إلا له،فإذا غاب حكم النواب بمراسيمه،فهو الحاكم غيباً وشهادة)..
وما أوردنا هذه الأخبار والتنبيهات إلا تأنيساً لمن لا يَعرف هذه المَرْتبة من كَشْفه،ولا أطْلَعه الله على ذلك من نفسه. وأما (أهل الله) فهم على ما نحن عليه فيه،قد قامت لهم شَواهد التّحقيق على ذلك من عند ربهم في نفوسهم. وإن كان يُتصوّر على جميع ما أوردناه في ذلك إحتمالاتكثيرة،فذلك راجع إلى ما تُعطيه الألفاظ من القوة في أصل وضعها،لا ما هو عليه الأمر في نفسه عند (أهلالأذواق) الذين يأخذون العلم عن الله كالخضر وأمثاله. فإن الإنسان ينطق بالكلام يريد به معنى واحداً مثلاً من المعاني التي يتضمّنها ذلك الكلام،فإذا فسّر بغير مقصود المتكلم من تلك المعاني فإنما فسّر المفسر بعض ما تُعطيه قوة اللفظ وإن كان لم يُصب مقصود المتكلم. ألا ترى الصحابة كيف شقّ عليهم قوله تعالى (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) فأتى به نكرة،فقالوا (وأينا لم يلبس إيمانه بظلم؟). فهؤلاء الصحابة،وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم،ما عرفوا مقصود الحق من الآية،والذينظروه سائغ في الكلمة غير منكور،فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم (ليس الأمر كما ظننتم،وإنما أراد الله بالظلم هنا ما قال لقمان لإبنه وهو يعظه: يا بني لا تُشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم). فقوة الكلمة تعُمّ كل ظلم،وقصد المتكلم إنما هو ظلم معين مخصوص. فكذلك ما أوردناه من الأخبار في أن بني آدم (سوقة ومِلْك) لهذا السيّد محمد صلى الله عليه وسلم هو المقصود من طريق الكشف.. ولذلك تتقوّى التفاسير في الكلام بقرائن الأحوال،فإنها المميزة للمعاني المقصودة للمتكلم،فكيف من عنده الكشف الإلهي والعلم اللدُني الرباني؟.. وهذا الذي نزعنا إليه من (دورة المُلْك)،قال به غيرنا كالإمام أبي القاسم بن قسيّ في خلعه (أي كتابه خلع النعلين)،وهو روايتنا عن إبنهعنه،وهو من سادات القوم،وكان شيخه الذي كُشف له على يديه من أكبر شيوخ المغرب،يُقال له إبنخليل،من أهل لبله.. ف(دروة الملك) عبارة عمّا مهّد الله من آدم إلى زمان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من الترتيبات في هذه النشأة الإنسانية،بما ظهر من الأحكام الإلهية فيها،فكانوا (خلفاء الخليفة السيّد).. الشيخ الاكبر ذ موعشي رشيد

24 : عدد الزوار