البَهاليل وأئمّتهم في البَهْلَلَة

الباب الرابع والأربعون : في البَهاليل وأئمّتهم في البَهْلَلَة
_ فَجَآت الحق لمَن خَلا به في سِرّه : يقول الله تعالى (وترى الناس سُكارى وما هم بسكارى). وذلك أن لله قَوماً كانت عقولهم مَحجوبة بما كانوا عليه من الأعمال،التي كَلّفهم الحق تعالى،في كتابه وعلى لسانه رسوله،التصرّف فيها شرعاً،شَرَعها لهم. ولم يكن لهم عِلم بأن لله تعالى فَجَآت لمَن خَلا به في سِرّه ،وأطاعَه في أمره،وهَيّأ قلبه لنوره من حيث لا يشعُر. ففَجَأه الحق على غفلة منه بذلك،وعَدم عِلم وإستعداد لهائل أمر. فذَهَب بعَقله في الذّاهبين. وأبقى تعالى ذلك الأمر الذي فَجَأه،مَشهوداً له،فهامَ فيه ومَضى معه. فبَقى هذا المُوَلّه ،الذي فَجَأه الحق على غفلة منه،في عالَم شَهادته،بروحه الحيواني: يأكل ويَشرب ويتصرّف في ضروراته الحيوانية،تَصرّف الحيوان المفطور على العلم بمَنافعه المحسوسة وَمَضارّه،من غير تدبير ولا رَويّة ولا فكر. يَنطق بالحكمة ولا علم له بها ــ ولا يَقصد نَفعك بها ــ لتتّعظ وتتذكّر أن الأمور ليست بيَدك،وأنك عبد مُصَرّف بتصريف حكيم. سَقَط التكليف عن هؤلاء،إذ ليس لهم عقول يقبلون بها ولا يفقهون بها..

_ عُقَلاء المَجانين من أهل الله : وهؤلاء هم الذين يُسمّون (عقلاء المجانين). يُريدون بذلك: أن جُنونهم ما كان سببه فَساد المزاج عن أمر كَوني ،من غذاء أو جوع أو غير ذلك. وإنما كان عن تَجَلّ إلهي لقلوبهم، وفَجأة من فَجآت الحق فَجَأتهُم فذَهبت بعقولهم. فعقولهم مَحبوسة عنده، مُنَعّمة بشُهوده،عاكفة في حَضرته،مُنزّهة في جماله. فهم أصحاب عقول بلا عقول،فعُرفوا في الظاهر بالمجانين،أي المَستورين عن تَدبير عقولهم. فلهذا سُمّوا (عقلاء المجانين). قيل لأبي السّعود بن الشّبل البغدادي،عاقل زمانه: ما تَقول في عقلاء المجانين من أهل الله؟ ،فقال: هُم مِلاح،والعُقلاء منهم أمْلَحْ . قيل له: فبما نَعرف مجانين الحق من غيرهم؟ ،فقال: مَجانين الحق تَظهر عليهم آثار القُدرة،والعقلاء يُشهَد الحق بشُهودهم ،وقال: مَن شاهَد ما شاهدوا وأُبْقِيَ عليه عَقله،فذلك أحْسَن وأمْكَن،فإنه قد أقيمَ وأعطيَ من القوة قَريباً ممّا إعطيت الرسل .
_ تَجَلّي الربّ وتَدكدك جَبل القلب : وإن تغيّروا (أي: الرجال من أهل الله) في وقت الفَجآت،فذلك لا يَحُطّ من مقامهم. فقد علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا فَجَأه الوَحي،جُئثَ منه رَعْباً،فأتى خديجة تَرجف بَوادره،فقال (زمّلوني،زّمّلوني). وذلك من تَجلّي مَلَك،فكيف به بتَجلّي مَلِك؟ (فلمّا تجلّى ربه للجبل جعله دكاً وخَرّ موسى صعقاً).. فمَواجده صلى الله عليه وسلم من تجليات ربه على قلبه،أعظم سَطوة من نُزول مَلَك ووارد، في الوقت الذي لم يكن يَسعه فيه غير ربّه. ولكن،كان مُنتظراً، مُستعدّاً لذلك الهَوْل. ومع هذا،يُؤخَذ عن نفسه. فلولا أنه رسول،مطلوب بتبليغ الرسالة وسياسة الأمّة،لذَهب الله بعقول الرّسل،لعَظيم ما يُشاهدونه. فمَكّنهم الله،القويّ المتين،من القوة بحيث يتمكّنون من قبول ما يَرد عليهم من الحق،ويوصلونه إلى الناس ويعملون به. _ [(مراتب الناس) في قبول (الواردات الإلهية)]: فاعلم أن الناس،في هذا المقام،على إحدى ثلاث مراتب: فمنهم: من يكون وارده أعظم من القوة التي يكون في نفسه عليها،فيحكُم الوارد عليه،فيغلب عليه الحال فيكون بحُكمه. يُصَرّفه الحال،ولا تدبير له في نفسه ما دام في ذلك الحال. فإن إستمرّ عليه إلى آخر عمره،فذلك المسمّى في هذه الطريقة بالجنون ،كأبي عِقال المغربي .ومنهم: من يُمْسَك عقله هناك،ويبقى عليه عقل حيوانيته.. فهؤلاء يُسمّون عقلاء المجانين ،لتَناولهم العيش الطبيعي، كسائر الحيوانات. وأما مثل إبي عِقال فمجنون،مأخوذ عنه بالكليّة. ولهذا ما أكل وما شرب،من حين أُخِذَ إلى أن مات. وذلك في مدّة أربع سنين،بمكة.. ومنهم: من لا يَدوم له حكم ذلك الوارد،فيَزول عنه الحال،فيَرجع إلى الناس بعقله،فيُدبّر أمره،ويَعقل ما يقول وما يُقال.. وذلك هو النبيّ،وأصحاب الأحوال من الأولياء . ومنهم: من يكون وارده وتَجلّيه مُساوياً لقوته،فلا يُرى عليه أثر من ذلك حاكِم. ولكن يُشْعَر،عند ما يُبصَر،أن ثَمّ أمراً طَرأ عليه،شُعوراً خَفيّاً.. ومنهم: من تكون قوته أقوى من الوارد. فإذا أتاه الوارد ــ وهو معك في حديث ــ لم تَشعر به وهو يأخذ من الوارد ما يُلقي إليه،ويأخذ عنك ما تُحدّثه به أو يُحدّثك به. وما ثَمّ أمر رابع في واردات الحق على قلوب أهل هذه الطريقة. وهي مسألة غَلَط فيها بعض أهل الطريق في الفرق بين النبيّ والوليّ ،فقالوا: الأنبياء يُصَرّفون الأحوال،والأولياء تُصَرّفهم الأحوال. فالأنبياء مالِكون أحوالهم،والأولياء مَملوكون لأحوالهم . والأمر إنما هو كما فصّلناه لك. وقد بيّنا لك لماذا يُرَدّ الرسول ويُحْفَظ عليه عقله،مع كونه يُؤخَذ ــ ولا بُدّ ــ عن حِسّه،في وقت وارد الحق على قلبه بالوحي المُنزَل. فافهم ذلك،وتَحقّقه. وقد لَقينا جماعة منهم،وعاشَرناهم،وإقتبسنا من فوائدهم.. _ ألوان من مجانين الحقّ : ثمّ لتعلم أن هؤلاء البَهاليل ــ كبهلول وسَعدون ،من المُتقدّمين،و أبي وَهْب الفاضل ،وأمثالهم ــ منهم المَسرور ومنهم المَحزون . وهم،في ذلك،بحسب الوارد الذي ذهب بعقولهم. فإن كان وارد قَهر قَبَضهم: كيعقوب الكوراني ،كان بالجسر الأبيض،رأيته،وكان على هذه القَدَم. وكذلك مسعود الحَبشي ،رأيته بدمشق مُمتزجاً بين القبض والبَسط،الغالب عليه البَهْت. وإن كان وارد لُطْف بَسَطهم. رأيت من هذا الصّنف جماعة،كأبي الحجاج الغِلْيَري وأبي الحسن عليّ السّلاوي . والناس لا يعرفون ما ذهب بعقولهم. شَغَلهم ما تَجلّى لهم عن تَدبير نفوسهم،فسَخّر الله لهم الخلق،فهم مُشتغلون بمصالحهم عن طيب نفس.. فجَمع الله لهم بين الراحتين: حيث يأكلون ما يشتهون،ولا يُحاسبون ولا يُسألون.. _ إبن عربي في مقام البَهْلَلة : ولقد ذُقْت هذا المقام،ومَرّ عليّ وقت أؤدّي فيه الصلوات الخمس إماماً بالجماعة ــ على ما قيل لي ــ بإتمام الركوع والسجود وجميع أحوال الصلاة،من أفعال وأقوال. وأنا،في هذا كله،لا علم لي بذلك.. لشُهود غَلَب عليّ،غِبْت فيه عَنّي وعن غيري. وأخبرت أني كنت إذا دخل وقت الصلاة،أقيم الصلاة وأصلّي بالناس. فكان حالي كالحركات الواقعة من النائم،ولا علم له بذلك. فعَلمت أن الله حَفِظَ عليّ وَقتي،ولم يُجْر عليّ لسانَ ذَنب،كما فَعل بالشّبلي في وَلَهه،لكن الشّبلي كان يُرَدّ في أوقات الصلوات،على ما رُوي عنه. فلا أدري: هَل كان يَعْقل رَدّه أو كان مثل ما كنت فيه؟ فلمّا قيل للجنيد عنه،قال: الحمد لله الذي لم يُجْر عليه لسان ذنب). إلا أنّي كنت في أوقات في حال غَيبتي،أشاهد ذاتي في النور الأعَمّ والتجلّي الأعظم،بالعرش العظيم،يُصلَّى بها وأنا عَرِيّ عن الحركة،بمعزل عن نفسي،وأشاهدها،بين يديه،راكعة وساجدة ــ وأنا أعلم أنّي أنا ذلك الراكع والساجد ــ كرُؤية النائم ــ واليد في ناصيّتي. وكنت أتعجّب من ذلك،وأعلم أن ذلك ليس غيري،ولا هو أنا. ومن هناك عَرفت المُكَلِّف والتّكليف والمُكَلَّف ــ إسم فاعل وإسم مفعول.

294 : عدد الزوار