معراج التشوف إلى حقائق التصوف

معراج التشوف إلى حقائق التصوف
1__(التوبة) : الرجوع عن كل فِعْل قَبيح إلى كل فعل مَليح،أو عن كل وَصْف دَنِيّ إلى التحقّق بكل وصف سَنِيّ،أو عن شُهود الخَلْق إلى الإسْتغراق في شهود الحَق.. وشُروطها: (النّدَم والإقْلاع ونَفْي الإصْرار)، وأما (رَدّ المَظالم) ففرض مُسْتَقل تَصِحّ بدونه كما تَصحّ من ذنب مع الإصرار على آخر من غير نوعه.. فتوبة العامة من الذنوب،وتوبة الخاصة من العُيوب،وتوبة خاصة الخاصة من كل ما يَشْغَل السِرّ عن حَضْرة عَلاّم الغيوب. وكل المقامات تَفْتَقر إلى التوبة.. و(التوبة النّصُوح) يَجْمَعها أربعة أشياء: (الإسْتغفار باللّسان،والإقلاع بالأبدان،وعَدَم الإصْرار بالجَنان،ومُهاجرة سَيّء الخِلاّن)..قال سفيان الثوري: “علامة التوبة النصوح أربعة: القِلّة والعِلّة والذِلّة والغُرْبَة”.
2_(الإنابة) : وهي أخَصّ من “التوبة” لأنها “رُجوع يَصْحَبه إنْكِسار ونُهوض إلى السّيْر”. وهي ثلاث: (رُجوع من الذّنْب إلى التّوبة،ومن الغَفْلة إلى اليَقَظة،ومن الفَرْق إلى الجَمْع على الله)..
3_(الخوف) : إنْزِعاج القلب من لُحُوق مَكروه أو فَوْت مَرْغوب.وثمرته: “النهوض إلى الطّاعة والهُروب من المعصية”،فإظْهار الخوف مع التّقْصير دَعْوى. فخوف العامة من العِقاب وفَوْت الثّواب،وخوف الخاصة من العِتاب وفَوْت الإقْتراب،وخوف خاصة الخاصة من الإحْتِجاب بعُروض سُوء الأدَب..
4_(الرجاء) : سُكون القلب إلى إنْتظار مَحْبوب بشَرْط السّعْي في أسبابه،وإلا فأُمْنيّة وغُرور.. فرجاء العامة حُسْن المآب بحُصول الثّواب،ورجاء الخاصة حُصول الرّضْوان والإقْتراب،ورجاء خاصة الخاصة التّمكّن من الشّهود وزيادة التّرقّي في أسْرار المَلك الوَدود.. والخوف والرجاء للقلب كجَناحي الطّير،لا يَطير إلا بهما. ورُبّما يتَرجّح الرجاء عند العارفين،والخوف عند الصالحين..
5_(الصبر) : حَبْس القلب على حُكْم الرّبّ. فصبر العامة حَبْس القلب على مَشاقّ الطاعات ورَفْض المُخالفات،وصبر الخاصة حَبْس النّفس على الريّاضات والمُجاهدات وإرْتكاب الأهْوال في سُلوك طريق الأحْوال مع مُراقبة القلب في دَوام الحُضور وطَلَب رَفْع السّتور، وصبر خاصة الخاصة حَبْس الروح أو السّرّ في المُشاهدات والمُعاينات أو دَوام النّظَر والعُكوف في الحَضْرة..
6__(الشكر) : فَرَح القلب بحُضور النّعْمة،مع صَرْف الجَوارح في طاعة المُنْعم أوالإعتراف بنِعْمة المُنْعم على وَجْه الخُضوع.. ومَرْجعه لثلاث: شكر باللّسان وهو إعترافه بالنّعمة بنِعْمة الاستكانة،وشُكْر بالبَدَن وهو إتّصافُه بالخِدْمة،وشكر بالقلب وهو شُهود المُنْعم عند حُصول النّعمة (= الثناء باللسان والخدمة بالأرْكان،والإسْتغراق في شُهود المَنّان)…
7__(الورع) : كَفّ النّفس عن إرْتكاب ما تُكْرَه عاقِبَتُه. فوَرع العامة تَرْك الحرام المُتَشابه،ووَرع الخاصة تَرْك كل ما يُكَدّر القلب ويَجِد منه حَزازة أو ظُلْمة (دَعْ ما يُريبُك إلى ما لا يُريبُك/الحديث)،ووَرع خاصة الخاصة رَفْض التّعلّق بغير الله وسَدّ باب الطّمَع في غير الله وعُكوف الهَمّ على الله وعَدَم الرّكون إلى شيء سواه(وهذا هو الوَرَع الذي هو “مَلاك الدّين”،كما قال الحسن البصري حين سُئِل: ما مَلاك الدّين؟ فقال “الوَرَع”. وقيل له: وما فَساد الدّين؟ فقال: “الطّمَع”. فالوَرَع الذي يُقابل الطّمَع كل المُقابلة هو وَرَع خاصة الخاصة،وجُزْء منه يَعْدل آلاف من الصلاة والصيام..
8__(الزهد) : خُلُوّ القلب من التّعلّق بغير الرّبّ أو بُرودة الدنيا من القلب وعُزوف النفس عنها. فزُهد العامة تَرْك ما فَضُل عن الحاجة في كل شئ،وزُهد الخاصة تَرْك ما يَشْغل عن التقرّب إلى الله في كل حال،وزُهد خاصة الخاصة تَرْك النّظَر إلى ما سوى الله في جميع الأوْقات. وحاصل الجميع: بُرودة القلب عن السّوى،وعن الرّغْبة في غير الحبيب،وهو سَبَب المَحبّة/كما قال (ص): “أزْهُد في الدنيا يُحِبّك الله”/وهو سَبَب السّيْر والوصول،إذ لا سَيْر للقلب إذا تعلّق بشيء سوى المَحْبوب..
9__(التوكل) : ثِقَة القلب بالله حتى لا يَعْتمد على شيء سِواه،والتعلّق بالله والتّعويل عليه في كل شئ عِلْماً بأنه عالم بكل شئ. أو أن تكون بما في يَد الله أوْثَق مِنْك بما في يَدِك. فأدْناه أن تكون مع الله كالمُوَكّل مع الوَكيل الشّفيق المُلاطف،ووَسَطُه كالطفل مع أمّه لا يَرجع في جميع أموره إلا إليها،وأعْلاه أن تكون كالمَيّت مع الغاسل. فالأول للعامة،والثاني للخاصة،والثالث لخاصة الخاصة. فالأول يَخْطُر ببَاله تُهْمَة،والثاني لا إتّهام له لكن يتعلّق بأمّه عند الحاجة،والثالث لا إتّهام ولا تعلّق لأنه فَانٍ عن نفسه يَنْظُر كل ساعة ما يَفْعل الله به..
10__(الرّضا والتّسْليم) : (الرّضا): أن تَلْقى المَهالك بوَجْه ضاحك أو سُرور يَجدُه القلب عند حُلول القضاء أو تَرْك الإخْتيار على الله فيما دَبّر وأمْضى أو شَرْح الصّدر ورَفْع الإنْكار لما يَرِد من الواحد القهار. و(التّسليم): تَرْك التّدبير والإختيار بالسّكون تحت مَجاري الأقدار. فيُرادف الرّضا على الحَدّ الأخير،والرضا أعَمّ منه على الأولين.. وقيل: الرضا عند النزول،والتسليم قبل النزول وهو التفويض بعينه.. فبدايتهما ب”الصبر والمجاهدة”،ووَسَطهما ب”السّكون مع خَواطر التبرّم والكراهية”،ونهايتهما ب”فَرَح وسُكون مع عدم التبرّم”. فالأول للعامة،والثاني للخاصة،والثالث لخاصة الخاصة. ويُغْتَفر الخاطر الأول عند الجميع لضُعْف البشرية إذ لا يَخْلوا منه بَشَر..
11__(المُراقبة) : إدامَة عِلْم العبد بإطّلاع الرّبّ أو القيّام بحقوق الله سِرّاً وجَهْراً خالصاً من الأوْهام، صادقاً في الإحْترام. وهي أصْلُ كل خَيْر،وبقَدْرها تكون المُشاهدة. فمن عَظُمَت مُراقبته عَظُمت بعد ذلك مُشاهدته. فمراقبة أهل الظاهر حِفْظ الجوارح من الهَفَوات، ومُراقبة أهل الباطن حِفْظ القلوب من الإسْترسال مع الخَواطر والغَفَلات،ومُراقبة أهل باطن الباطن حِفْظ السِرّ من المُساكنة إلى غير الله..
12__(المُحاسبة) : عِتَاب النفس على تَضْييع الأنْفاس والأوْقات في غير أنواع الطّاعات، وتكون آخر النهار، كما أن (المُشارطة) تكون أوّل النهار..المُشارَطة أوّلاً،والمُحاسبة آخراً،والمُراقبة دائماً ما دام في السّيْر، فإذا حَصَل الوُصول فلا محاسبة ولا مشارطة..
13__(المَحَبّة) : مَيْل دائم بقَلْب هائِم..ويَظْهر هذا المَيْل أوّلاً على الجوارح الظاهرة بالخِدْمة وهو “مقام الأبرار”،وثانيا على القُلوب الشّائقة بالتّصْفية والتّحْلية وهو “مقام المريدين السّالكين”،وثالثاً على الأرْواح والأسْرار الصّافية بالتّمْكين من شُهود المحبوب وهو “مقام العارفين”. فبداية المحبة ظهور أثَرِها بالخِدْمة،ووَسطُها ظهور أثَرها بالسّكْر والهُيام،ونهايتُها ظهوره بالصّحْو في مقام العِرْفان. فلهذا إنْقَسم الناس على ثلاث مراتب: (أرباب الخدمة،وأرباب الأحوال،وأرباب المقامات). فبدايتها (سُلوك وخِدْمة) ووسطها (جَذْب ووَفاء) ونهايتها (صَحْو وبَقاء)..
14_(المُشاهدة والمُعاينة) :(المُشاهدة): رُؤْية الذّات اللّطيفة في مَظاهر تَجليّاتها الكَثيفة، فترجع إلى تَكْثيف اللّطيف. فإذا تَرَقّى الوِداد ورَجَعت الأنْوار الكثيفة لَطيفة فهي (المُعايَنة)، فتَرْجع إلى تَلْطيف الكثيف. فالمُعاينة أرَقّ من المُشاهدة وأتَمّ. والحاصل أن شُهود الذّات لا يُمْكن إلا بواسطة تَكْثيف أسْرارها اللّطيفة في مظاهر التَجليّات. إذ لا يُمْكن إدْراك اللّطيف ما دام لَطيفاً. فرُؤية التَجليّات كَثيفة “مُشاهدة”،ورَدّها إلى أصْلها بإنْطباق بَحْر الأحَديّة عليها “مُعاينة”.وقيل هُما سواء..
15__(المعرفة) : وهي التّمكّن من المُشاهدة وإتّصالها.فهي “شُهود دائم بقَلْب هائِم”،فلا يَشْهد إلا مَوْلاه ولا يَعْرُج على أحد سواه،مع إقامة العدل وحِفْظ مراسم الشريعة.. فهذه حُدود المقامات قد إنْتَهت في (المعرفة). ثُمّ نَرْجع إلى حقائق أخرى يَكْثُر إستعمالها بداية ونهاية منها:
16_(التّقوى) : وهي إمْتثال الأوامر وإجْتناب المَناكر في الظّواهر والسّرائر،أو مُواصلة الطّاعات والإعراض عن المُخالفات. فتقوى العامة إجتناب الذنوب،وتقوى الخاصة التّخلّي عن العُيوب،وتقوى خاصة الخاصة الغَيْبة عن السّوى بالعُكوف في حَضْرة علاّم الغُيوب..
17__(الإستقامة) : إستعمال العلم بأقوال الرسول (ص) وأفعاله وأحواله وأخلاقه من غير تَعَمّق ولا تَأنّق ولا مَيْل مع أوْهام الوسواس،والخُروج عن المَعْهودات ومُفارقة الرّسوم والعادات أو القيام بين يَدَيْ الله تعالى على حقيقة الصّدق في جميع الحالات.وهي الأقوال بتَرْك الغَيْبة،وفي الأفعال بتَرْك البدعة،وفي الأحْوال بعَدَم الخُروج سُنَن الشريعة. فإستقامة العامة بمُوافقة السّنّة،وإستقامة الخاصة بالتخلّق بالأخلاق النبوية،وإستقامة خاصة الخاصة بالتخلّق بأخلاق الرحمان مع الاسْتغراق في حَضْرة العِيّان..
18__(الإخلاص) : إخراج الخَلْق من مُعاملة الحقّ أو إفْراد الحق تعالى في الطاعة بالقَصْد أو غَيْبة القلب عن غير الربّ. فإخلاص العامة تَصْفية الأعمال عن مُلاحظة المَخْلوقين،وإخلاص الخاصة تَصْفيتها عن طَلَب العِوَض في الدارين،وإخلاص خاصة الخاصة التَبرّي من الحَوْل والقُوّة ومن رُؤْية الغير في القَصْد والحركة حتى يكون العمل بالله ومن الله وإلى الله غائباً عمّا سواه..
19__(الصّدْق) : إسْقاط حُظوظ النفس في الوِجْهَة إلى الله تعالى تَعْويلا على ثَلْج اليقين أو إسْتواء الظاهر والباطن في الأقوال والأفعال والأحوال ومُلازمة الكِتْمان غَيْرة على أسْرار الرحمان. وحاصله: (تَصْفية الباطن من الإلْتِفات إلى الغير بالكُليّة). والفرق بينه وبين (الإخلاص) أن الإخلاص “يَنْفي الشّرك الجَليّ والخَفِيّ”،والصّدق “يَنْفي النّفاق والمُداهنة بالكُليّة”.فصاحب الإخلاص لا يَخْلو من مُداهنة النفس ومُسامحة الهَوى،بخلاف صاحب الصّدق فإنه يَذْهب بالمُداهنات ويَرْفع المُسامحات،إذ لا يَشُمّ رائحة الصّدق من داهَن نفسه أو غيره فيما دَقّ أو جَلّ. وعلامة الصدق: (إسْتواء السِرّ والعَلانية)،فلا يُبالي صاحب الصدق بكَشْف ما يَكْره إطّلاع الناس عليه ولا يَسْتحيي من ظُهوره لغيره إكْتفاء بعلم الله به.. فصدق العامة تَصْفية الأعمال من طَلَب الأعْراض،وصدق الخاصة تَصْفية الأحْوال من قَصْد غير الله،وصدق خاصة الخاصة تَصْفية مَشْرب التّوحيد من الإلْتفاتات إلى ما سِوى الله. ويُقال لصاحب المقام الأول (صادق)،وللثاني والثالث (صِدّيق). وأما التّصْديق بوجود الحق أو بوجود الخصوصية عند الأولياء وتَعْظيمهم لأجْلِها فهو “تَصْديق” لا صِدْق..
20__(الطمأنينة) : وهي سُكون القلب إلى الله عارياً عن التقلّب والإضْطراب،ثِقَة بضَمانه وإكْتفاء بعِلْمه أو رُسوخا في معرفته.وتكون من وَراء الحِجاب بتواتُر الأدلّة وإستعمال الفكرة أو بتَوالي الطاعة ومُجاهدة الرياضة.وتكون بعد زَوال الحِجاب بتَمكّن النّظْرة ورُسوخ المعرفة. فقَوْم “إطْمَأنّوا بوُجود الله من طريق البُرهان أو البيان”،وقوم “إطمأنوا بشُهود الله بعد ظُهوره من طريق العِيّان. فالأول (للعلماء)،والثاني (للعباد والزهاد والصالحين)،والثالث (للعارفين المقربين)..
21_(الشّوْق والإشْتياق) : (الشوق) إنزعاج القلب إلى لقاء الحبيب.و(الإشتياق) إرتياح القلب إلى دوام الإتصال به. فالشوق يَزول برُؤية الحبيب ولقائه،والإشْتياق لا يزول أبَداً لطَلَب الرّوح الزيّادة في كَشْف الأسْرار والقُرْب إلى الأبَد. فشوق العامة إلى زخارف جَنابه،وشوق الخاصة إلى نَيْل رِضْوانه،وشوق خاصة الخاصة إلى حَضْرة عِيّانه..
22__(الغَيْرة) : كراهية رُؤية حبيبك عند غيرك فيَهيج التّنافس في حِيّازته. قال الشبلي: “الغيرة غَيْرتان: فغيرة البشرية على النفوس،وغيرة الإلهية على القلوب”. ومعناه: أن الطبع البشري يَكْره أن يَرى محبوبه عند غيره كالزوجة مثلا،والحق تعالى يَكْره أن يَرى قلوب أوليائه مُتَعلّقة بغيره.وفي الحديث: “لا شيء أغْيَر من الله”،ولذلك حَرّم الفواحش ما ظهر منها وما بَطَن.. وما في الوجود إلا الغيرة الإلهية سَرَت في مَظاهر تَجليّاته. ف(غَيْرة النفوس) للعامة وهي غيرتهم على هَتْك حُرمة حَريمهم،و(غَيْرة القلوب) للخاصة وهي غيرتهم على قلوبهم أن تَميل لغير محبوبهم،و(غَيْرة الأرواح والأسرار) لخاصة الخاصة وهي غيرتهم على أرْواحهم أن تَلْتفت إلى شيء دون محبوبهم وغيرتهم على الحبيب أن يَميل إلى غيرهم ..وقد يَغار الحق تعالى على أوليائه فيَنْتقم من أعدائهم إذا أذَوْهُم،ومن غَيْرته أيضاً عليهم أن لا يُظْهِرهم لجميع الخَلْق فيَضِنّ بهم على خلقه حتى يَلْقوه تحت أسْتار الخُمول وهُم “عَرائس حَضْرته”..
23__الفُتُوّة: وهي الإيثار على النفس بما تُحِبّ، والإحسان إلى الخَلْق بما يُحِبّ. ولذا قيل: “لَمْ تَكْمُل الفُتُوّة إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم” حيث يقول في موضع لا يَذْكُر فيه أحد إلا نفسه: “أُمّتي أُمّتي”. وقيل هي: “أن لا تَرى لنفسك فَضْلاً على غيرك”. والفتى من لا خَصْم له.ومَرْجعها إلى (السّخاء والتّواضع والشّجاعة في مَواطن الإضْطراب). ففتوة العامة بالأموال،وفتوة الخاصة بالنفوس،وفتوة خاصة الخاصة بالأرواح وبَذْل المُهَج في جانب المحبوب..
24__(الإرادة) : وهي قَصْد الوُصول إلى المحبوب بنَعْت المُجاهدة، أوالتَحَبّب إلى الله بما يَرْضى والخلوص في نَصيحة الأمة والأُنْس بالخُلْوة والصّبر على مُقاساة الأهْوال ومُنازلات الأحْوال والإيثار لأمْره والحَياء من نَظَره وبَذْل المَجْهود في محبوبه والتَعرّض لكل سَبَب يوصل إليه وصُحْبة من يَدُلّ عليه والقناعة بالخُمول وعَدَم سُكون القلب إلى شيء دون الوصول.وهي (أوّل منزلة القاصدين وبَدْء طريق السالكين). و(المُريد): “من لا إرادة له دون مَوْلاه”. وهي ثلاث مراتب: (إرادة التّبرّك والحُرمة) وهي لمن ضَعُفَت هِمّته وكَثُرت علاقته،و(إرادة الوصول إلى الحَضْرة) وهي لأهل التّجْريد وقُوّة العَزْم،و(إرادة الخلافة وكمال المعرفة) وهي لمَنْ ظَهَرت نَجابتُه وكَمُلت أهْليّته وصُرّح له بالخلافة من شيخ كامل أو هاتف صادق..
25__(المُجاهدة) : وهي فَطْم النفس عن المألوفات وحَمْلها على مُخالفة هَواها في عموم الأوْقات وخَرْق عوائدها في جميع الحالات. قال بعضهم مَرْجعها إلى ثلاث: (لا تَأْكُل إلا عند الفاقة،ولا تَنَم إلا عند الغَفْلة،ولا تَتكلّم إلا عند الضرورة). ونهايتها (المشاهدة) فلا مُجاهدة بعدها،ف”لا تَجْتمع مُجاهدة ومُشاهدة” إذ “نهاية التّعَب تَمام السّفر”،فإذا حَصَل الوصول فما بَقي إلا الرّاحة ومُشاهدة الحبيب مع حِفْظ الأدب. وهي ثلاث: (مُجاهدة الظّواهر) بدَوام الطّاعات وكَفّ المَنْهيات،و(مُجاهدة البَواطن) بنَفْي الخَواطر الرّديئة ودَوام الحُضور في الحَضْرة القُدسية،و(مُجاهدة السّرائر) بإسْتِدامة الشّهود وعَدَم الإلْتفات إلى غير المَعْبود..
26_(الوَلاية) : وهي حُصول الأُنْس بعد المُكابَدة وإعْتِناق الرّوح بعد المُجاهدة. وحاصلها: (تَحْقيق الفناء في الذات بعد ذهاب حِسّ الكائنات) فيَفْنى من لَمْ يَكُن ويَبْقى من لم يَزَل. فأوّلُها (التمكّن من الفناء) ونهايتها (تَحْقيق البقاء وبَقاء البقاء) ويَبْقى التَرقّي والإتّساع فيها أبداً سَرْمداً.. وتُطْلق على ثلاث مراتب: وَلاية عامة وهي ل(أهْل الإيمان والتّقوى) كما في الآية (ألا إن أأولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون،الذين آمنوا وكانوا يتقون)،وولاية خاصة وهي ل(أهْل الإسْتشراف على العلم بالله)،وولاية خاصة الخاصة وهي ل(أهل التمكّن في معرفة الله على نَعْت العِيّان)..
27__(الحُريّة) : وهي تَصْفيّة الباطن من حُبّ غير الحق حتى لا يبقى فيه بقية لغير الله،،وهي (الحرية الكَسْبية)، وهي سَبَب الظّفَر ب(الحرية الوَهْبيّة) وهي غَيْبَة العبد في مَظاهر الربّ،فتَنْتفي ظُلمة الحُدوث في نور القِدَم وتَخْتفي قَوالب العُبودية في تَجَلّي مَظاهر الرُبوبية،فيَبْقى الحَقّ بلا خَلْق،فحينئذ يُكْتَب للعبد عَقْد الحرية فتكون عبادته وعُبوديته شُكْراً لا قَهْراً..
28__(العُبُودية) : وهي (القيام بآدَاب الربوبية مع شُهود ضُعْف البشريّة). وقال بعضهم: هي القيام بحَقّ الطّاعات بشَرْط التّوْقير والنّظر إلى ما مِنْك بعَيْن التّقْصير،أو تَرْك الإخْتيار فيما يَبْدو من الأقْدار،أو التَبرّي من الحَوْل والقوة والإقرار بما يُوليك ويُعْطيك من المِنّة. وعلامتها: (تَرْك التّدْبير بشُهود التّقْدير). وأجمع العبارات فيها، قول ابن عطاء الله: (حِفْظ الحُدود، والوَفاء بالعُهود، والرّضا بالموجود، والصّبر على المَفْقود).. قال أبو علي الدقاق: “العُبودية أتَمّ من العبادة”. فأول المراتب: (عبادة ثم عُبودية ثم عُبودَة). فالعبادة للعوام،والعبودية للخواص،والعبودة لخواص الخواص.. والعبودة هي: الحرية الوهمية،والله تعالى أعلم..
29__(القناعة) : الإكْتفاء بالقِسْمة وعدم التَشوّف للزيادة،أو الإسْتغناء بالمَوْجود وتَرْك التشوّف إلى المفقود..ومَرْجعها إلى سَدّ باب الطّمع وفَتْح باب الوَرَع،وهي مطلوبة في أمور الدنيا فقط وأما أمور الآخرة أو في زيادة العلم أو التَرقّي في المعرفة فمَذْمومة،ولذلك قيل: “القَناعة من الله حِرْمان”..
30__(العافية) : وهي سُكون القلب وخُلُوّه من الإنْزعاج والإضْطراب والتقلّب.ثُمّ إن كان بالسُكون إلى الله والرّضا عنه فهي (العافية الكاملة)،وإن كان بجَرَيان الأسباب المُوافقة فهي (العافية العادية). وفي الحديث: “ما أُعْطى أحَد بَعْد اليقين خَيْراً من العافية”. فعافية العامة سُكونهم إلى الأسباب فإذا إنْخَرمت إضْطربت قلوبهم وتَزلْزلت بخَرابها من نُور اليقين.وعافية الخاصة سُكونهم إلى مُسَبّب الأسباب، فعافيتهم دائمة ورُبّما يَزيد يقينهم إذا إنْخَرمت الأسباب، كما قال بعضهم: “نحن كالنجوم كلّما إشْتَدّت الظلمة قَوِي نورنا”.وعافية خاصة الخاصة سُكونهم إلى شُهود الحَقّ غائبين عن الأسباب وعَدَمها في بَحْر التّوحيد وأسْرار التّفْريد،لا تَنْزل الهُموم بساحتهم ولا تُكَدّر صَفاء مَشْربهم،جعلنا الله منهم آمين…
31__(اليَقين) : وهو سُكون القلب إلى الله بعِلْم لا يَتغيّر ولا يَتحوّل ولا يَتقلّب ولا يَزول عند هَيَجان المُحَرّكات أو إرْتفاع الرّيْب في مُشاهدة الغَيْب.وعلامته ثلاث: (رَفْع الهِمّة عن الخَلْق عند الحاجة،وتَرْك المَدْح في العَطِيّة،والتنزّه عن ذَمّهم عند المَنَعَة). فيقين العامة ب(تَوحيد أفعاله) فسَكنوا إليه في المَنْع والعَطاء.ويقين الخاصة ب(تَوحيد صفاته) فرَأوا الخَلْق مَوْتى ليس بيَدهم حَرَكة ولا سُكون.ويقين خاصة الخاصة ب(توحيد ذاته) فشاهَدوه في كل شيء وعَرفوه عند كل شيء ولم يُشاهدوا معه شيئاً..
32_(علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين) : (علم اليقين) ما كان ناشِئاً عن البُرْهان.و(عين اليقين) ما نَشَأ عن الكَشْف والبَيان.و(حق اليقين) ما نَشَأ عن الشّهود والعِيّان. فعلم اليقين ل(أرْباب العقول من أهل الإيمان)،وعين اليقين ل(أرْباب الوِجْدان من أهل الإسْتشراف على العِيّان)،وحق اليقين ل(أهل الرّسوخ والتّمكين في مقام الإحسان). ومثال ذلك: كمَن سَمِع بمَكّة مثلا ولم يَرَها فعنده علم اليقين بوجودها،فإذا إسْتَشْرف عليها ورآها ولَمْ يَدْخُلها فعنده عَيْن اليقين،فإذا دَخَلها وعَرَف طُرُقها وأماكنها فهذا عنده حق اليقين.وكذلك الناس في معرفة الحق تعالى: ف(أهْلُ الحِجاب) إسْتَدلّوا حتى حصل لهم العلم اليقيني بوجود الحق،و(أهل السّيْر) من المُريدين المُسْتَشرفين على الفناء في الذات حَصَل لهم عين اليقين حتى أشْرَقت عليهم أنْوار المعاني وغابَت عنهم ظلال الأواني،غير أنهم باقون في دَهْشة الفناء لم يتمكّنوا من دَوام شُهود الحق،فإذا تَمكّنوا من دَوام شُهوده ورَسَخت أقدامهم في معرفته حَصَل لهم حَقّ اليقين،وهذه نهاية النّعمة وغاية السعادة،جعلنا الله منهم بمَنّه وكرمه.
33__(النّعْمة) : هي مُلازمة الأفْراح ومُباعدة الأتْراح وإصابة الأغْراض ونَزاهة الأعْراض. وهي على قسمين: (نعمة ظاهرة) كالصّحة والعافية والكفاية من الحلال،و(نعمة باطنة) كالإيمان والهداية والمعرفة.. والناس في النعمة الظاهرة على ثلاثة أقسام: قَوْم فَرحوا بالنعمة لما لهم فيها من المُتْعة فحُجبوا بها عن المُنْعم،وقوم فَرحوا بالنّعمة لإقْبال المُنْعم عليهم حيث ذَكَرهم بها،وقوم فَرحوا بالمُنْعم دون شيء سواه (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون).فشكر الأوّلين يَزول بزَوالها،وشكر الثالث دائم في السّراء والضّراء وهذا شُكر الخواص..
34__(الفِرَاسة) : وهي خاطر يَهْجُم على القلب أو وارد يَتَجلّى فيه لا يُخْطِئ غالبا إذا صَفا القلب. وفي الحديث: “إتّقوا فراسة المؤمن فإنه يَنْظُر بنور الله”.وهي على حسب قُوّة القُرْب والمعرفة. فكُلّما قَوِيَ القُرْب وتَمَكّنت المعرفة صَدَقت الفِراسة،لأن الرّوح إذا قَرُبت من حَضْرة الحَقّ لا يَتجلّى فيها غالباً إلا الحَق.وهي ثلاث مراتب: فراسة العامة وهي كَشْف ما في ضمائر الناس وما غاب من أحوالهم،وهي فِتْنة في حَق من لم يَتخلّق بأخْلاق الرّحمان.وفراسة الخاصة وهي كشف أسرار المقامات والمُنازلات والإطّلاع على أنوار الملكوت،وفراسة خاصة الخاصة وهي كشف أسرار الذات وأنوار الصفات والغَرَق في بَحْر أسْرار الجبروت. وقال الكتاني: “هي مُكاشفة الحق ومُعانية الغَيْب”..
35_(الخُلُق) : وهي مَلَكة تَصْدُر عنه الأفعال بسهولة. ثُمّ إن كانت الأفعال حَسَنة،كالحِلْم والعَفْو والجود ونحوها،سُمِيَ (خُلُقاً حَسناً).وإن كانت سَيّئة،كالغضب والعجلة والبُخْل،سُمي (خُلُقاً سَيّئاً).. فالخُلق الحَسن يُكْتَسب والسَيّئ يُجاهَد حتى يَزول.. والخُلق الحَسن يَعْدل الصيام والقيام،وهي ثَمَرة التصوّف.فمن لم يَحْسُن خُلقه فتصوّفه أشجار بلا ثمار.. ومَرْجع حُسن الخلق: (ألا تَغْضَب ولا تُغْضِب ولا تَبْخل ولا تَحْقِد)..
36_(الجُود والسّخاء والإيثار) : ف(الجود) أن لا يَصْعُب على صاحبه البَذْل.فمن أعْطى البَعْض وأبْقى الأكثر فصاحب (سَخاء)،ومن بَذَل الأكثر فصاحب (جود)،ومن قاسى الضرّاء وآثَر غَيْره فصاحب (إيثار).. فجود العامة ب(الأمْوال)،وجود الخاصة ب(النّفوس)،وجود خاصة الخاصة ب(الأرواح) يَبْذُلونها للموت بالمجاهدة،ثُمّ تَحْيا الحياة الأبدية بالمُشاهدة..
37__(الفَقْر) : وهو نَفْض اليَد من الدنيا وصِيّانة القلب من إظهار الشّكْوى. ونَعْت الفقير الصادق ثلاثة أشياء: (صِيانة فَقْره وحِفْظ سِرّه وإقامة دينه)..
38__(الذّكْر) : وهو إذا أُطْلق يَنْصرف لذكر اللّسان،وهو رُكن قَوي في طريق الوصول،وهو (مَنْشور الوَلاية) فمن أُلْهِم الذّكر فقد أُعْطي المَنْشور،ومن سُلِبَ الذكر فقد عُزِل. فذكر العامة باللسان،وذكر الخاصة بالجنان،وذكر خاصة الخاصة بالروح والسِرّ وهو الشّهود والعِيّان،فيذكُر الله عند ذكر كل شيء وعلى كل شيء،أي يعرف الله فيه،وهنا يَخْرُس اللّسان ويَبْقى كالمبهوت في مَحَل العِيّان،ويُعَدّ ذكر اللسان في هذا المقام ضعفاً وبطالة.. يكون ذلك ضُعْفاً وبَطالة ..
39_(الوَقْت) : قد يُطلقونه على ما يكون العبد عليه في الحال من قَبْض أوبَسْط أو حُزْن أو سُرور.. يقولون: ( الصوفي إبن وَقْته) يُريدون: أنه مُشْتَغل بما هو أوْلى به في الوقت،لا يُدَبّر في مستقبل ولا ماضي،بل يَهُمّه ما هو فيه. وكل وقت له آداب يُطْلَب فيه،فمن أخَلّ بأدَبِه مَقَته وَقْتُه، ولذلك قيل: “الوقت كالسّيْف، فمن لاَيَنه سَلِم ومن خاشَنه قُصِمَ”،ومُلايَنته القيام بأدَبه: ف(وَقْت القَهْرية) آدابه الرّضا والتّسليم تحت مَجاري الأقدار،و(وقت النّعمة) آدابه الشّكر،و(وقت الطاعات) آدابه شُهود المِنّة من الله،و(وقت المعصية) التّوبة والإنابة..
40_(الحال والمقام) : (الحال) مَعْنى يَرِد على القلب من غير تَعَمّل ولا إجْتناب،ولا تَسَبّب ولا إكْتساب: من بسط أو قبض أو شوق أو إنزعاج أو هَيْبة أو إهْتياج،ويَظْهر أُثَرُه على الجوارح قبل التّمْكين من شَطْح ورَقْص وسَيْر وهُيام،وهو أثَر المَحبّة لأنها تُحَرّك السّاكن أوّلاً ثُمّ تَسْكُن وتَطْمئن،ولذا قيل فيها: (أوّلُها جُنون،ووسطها فُنون،وآخرها سُكون).. وقد يُكْتَسب الحال بنوع تَعَمّل كحُضور حِلَق الذّكر وإستعمال السّماع..
وأما (المقام) فهو ما يَتحقّقُه العبد بمُنازلة وإجتهاد من الأدب،وما يَتمكّن فيه من مقامات اليقين بتَكسّب وتطلّب. فمقام كل أحد مَوْضع إقامته… فالمقامات تكون أوّلاً أحْوالاً حيث لم يَتمكّن المُريد منها لأنها تتحوّل ثُمّ تَصير مقامات بعد التّمْكين.. وشَرْطُه: ألا يَرْتقي مقاماً حتى يَسْتوفي أحكامَه.فمن لا توبة له لا تَصِحّ له إنابة،ومن لا إنابة له لا تَصح له إستقامة،ومن لا وَرَع له لا يَصح له زُهْد،وهكذا.. وقد يتحقق المقام الأول بالثاني، إذا تَرَقّى عنه قبل إحكامه،إن كان له شيخ كامل،وقد يَطْوي عنه المقامات ويَدُسّه إلى الفناء إن رآه أهْلاً بتَوَقّد قريحته ورِقّة فؤطْنته. ف(الأحوال مواهب،والمقامات مكاسب). هذا معنى المَقام بفَتْح الميم.وأما بالضَمّ (المُقام) فمعناه الإقامة،ولا يَكْمُل لأحد مُنازلة مُقام إلا بشُهود إقامة الحق تعالى فيه…
41__(القَبْض والبَسْط) : وهُما حالتان بعد التّرقّي من حال الخوف والرجاء. ف(القبض للعارف بمنزلة الخوف للطّالب)،و(البسط للعارف بمنزلة الرّجاء للمُريد).. فحقيقة (القَبْض) إنْكماش وضَيْق يَحصُل في القلب يوجب السّكون والهُدوء.. و(البَسْط) إنْطلاق وإنْشراح للقلب يوجب التَحرّك والإنْبساط.. ولكل واحد آداب مذكور في المُطَوّلات..
42_(الخواطر والواردات) : (الخَواطر) خطابات تَرِد على القلب،تكون بإلقاء مَلَك أو شيطان أو حديث نفس. فإذا كان من المَلَك، ف(إلهام) أو من الشيطان ف(وسواس) أومن النفس ف(هواجس). فما وافق الحق ودَعا إلى إتّباعه فمن المَلك.وما وافَق الباطل أو دعا إلى معصية غالباً فمن الشيطان،وقد يدعوا إلى الطاعة حيث يَترتّب عنها معصية كالرّبا وحُبّ المَدْح.وما دَعا إلى إتّباع الشّهوة والدّعَة أي الرّاحة فمن النفس. قال أبو علي الدقاق: “من أكل الحرام لم يُفَرّق بين الإلهام والوسواس وكذلك من كان قوته معلوماً”. وفرّق الجنيد بين هواجس النفس ووسواس الشيطان: بأن ما دَعَت إليه النفس لا تَنْتقل عنه بل تُعاوده مرّة بعد مرّة،إلا بعد مجاهدة كبيرة.ووسواس الشيطان يَنْتقل عنها،فإذا خالفته في معصية إنْتَقل لأخرى،ورُبّما يذهب بالتعوّذ ونحوه،ولذلك كانت (النفس أخْبَث من سبعين شيطاناً). وأما (الواردات) فهي ما يَرِد على القلوب من التّجليّات القَويّة والخَواطر المحمودة بما لا يكون للعبد فيه تَكسّب.والفرق بين الخواطر والواردات: أن (الواردات أعَمّ من الخواطر) لأن الخواطر تَخْتصّ بنوع خطاب أو ما يَتضمّن معناه. والواردات: تكون وارد سرور ووارد حزن ووارد قبض ووارد بسط ووارد شوق ووارد خوف إلى غير ذلك من المعاني،وقد يَخْتطفه عن شاهد حِسّه وهو قريب من (الحال)،وقد يَأتي الوارد بكَشْف غيب فيجب تَصْديقه إن صَفا القلب من كُدورات الخواطر والله تعالى أعلم..
43__(النفس والروح والسر) : (النّفْس) عند القوم: عبارة عَمّا يُذَمّ من أفعال العبد وأخلاقه.فالأول ما كان من كَسْب العبد كمعاصيه ومُخالفته،والثاني ما كان من جِبِلّته وطبيعته كالكبر والحسد والغضب وسُوء الخُلق وقِلّة الإحتمال وغير ذلك من الأخلاق الذميمة.. و(الروح): عبارة عن مَحَل التجليّات الإلهية وكَشْف الأنوار الملكوتية.. و(السِرّ): عبارة عن مَحَلّ تجليّات الأسرار الجبروتية.. والنفس لأهل (عالم الملك)،والروح لأهل (عالم الملكوت)،والسرّ لأهل (عالم الجبروت).. قال بعضهم: (النفس لَطيفة مودعة في هذا القالب هي مَحَل الأخلاق المذمومة،كما أن الروح لطيفة مودعة في هذا القالب هي محل الأخلاق المحمودة،ومَحَلّها واحد وهو الإنسان..وأما السِرّ فهو لَطيف مودع في القلب كالروح إلا أنه أشْرَف من الروح لكمال صَفائه). وقال الساحلي: (النفس والقلب والروح والسرّ والباطن أسماء لمسمى واحد، وهو اللطيفة الربانية التي كان الإنسان بها إنساناً وتختلف أسماؤها بإختلاف أوْصَافها: فإن مالَت لجهة النّقْص سُميّت “نفساً”،وإن تَخلّصت من مقام الإسلام إلى مقام الإيمان سُميت “قلباً”،وإن تَخلّصت منه إلى مقام الإحسان ولكن بَقِيَ فيها أثَر النّقص كأثر الجراحات بعد البَرْء سُميت “روحاً”،وإن ذهبت تلك الأثر وصَفِيت سُميت ب”السِرّ”،وإن أشْكَل الأمر سُميت ب”الباطن”..)،والإختلاف في الروح شهير..وكَوْن الأرواح حادثة يَجْري على مذهب أهل الفَرْق،وأما أهل الجَمْع فلا حادث عندهم لفناء الكائنات عن نظرهم. قال الجنيد: (إذا إقْتَرن الحادث بالقديم،تلاشى الحادث وبَقي القديم)..
44_(النّصْر والتّأييد والعِصْمَة) : (النّصر) تَقْوية الجوارح على فعل الخير. و(التّأييد) تَقْوية البَصيرة من داخل. فالباعث الباطني تَأييد،والبَطْش ومُساعدة الأسباب من خارج نَصْر..و(العصمة) عبارة عن جود إلهي يَسْبح في الباطن يَقْوى به الإنسان على تَحَرّي الخير وتَجنّب الشرّ حتى يَصير كمانع في باطنه غير محسوس (قاله الغزالي). فهذه سِتّ حقائق: (الهداية والرّشد والعصمة والتّسديد والنّصر والتّأييد)..والتحقيق أن (الهداية) هي تَصْويب العبد إلى طريق توصله إلى الحق وقد تُطلق على بيانها فقط،و(الرّشد) هو تَوجيه القلب إلى طريق السعادة،و(التّسْديد) هو القدرة على سلوك طريق الخير وتَجنّب الشر،و(العصمة) هو جود إلهي..
45_(الحكمة) : وهي إتْقان الشيء وإبداعه. ففي (العلم) تَحْقيقه والعمل به،وفي (الأقوال) إيجازه وتَكْثير معانيه،وفي (العمل)إتقانه وإكماله..
46_(العقل) : وهو نور يُمَيّز به بين النافع والضّار،ويَحْجز صاحبه عن إرْتكاب الأوْزار.أو نور روحاني تُدْرك به النفس العلوم الضرورية والنظرية.أو قوة مُهَيّأة لقَبول العلم. سُمِيَ عقلاً لأنه يَعْقل صاحبه عمّا لا ينبغي.وهو على قسمين: عقل أكبر وعقل أصغر. أما (العقل الأكبر) فهو أوّل نور أظهره الله للوجود،ويُقال له (الروح الأعظم) ويُسمى أيضا (القَبْضة المحمدية) ومن نوره يَمْتد العقل الأصغر كإمتداد القمر من نور الشمس،فلا يزال نوره يَنْمو بالطاعة والرياضة والتّطهير من الهَوى حتى يدخُل العبد مقام الإحسان وتُشْرق عليه شمس العرفان فيَنْطوي نوره في نور العقل الأكبر كإنْطواء نور القمر عند طلوع الشمس،فيَرى من الأسرار والغيوب ما لم يكن يراه قبل،لأن العقل الأصغر نوره ضعيف لا يُدرك إلا إفْتقار الصّنعة إلى صانعها ولا يَدْري ما وراء ذلك،بخلاف العقل الأكبر فإنه يُدْرك الصّانع القديم قبل التجلّي وبعده لصَفاء نوره وشِدّة شُعاعه.. فالعقل الأكبر لا ينالُه إلا المُحبّون الذين إختارهم الله لمعرفته الخاصة،وأما العقل الأصغر فيُعطيه للخاص والعام. وهو على قسمين: عقل موهوب وعقل مكسوب. فالموهوب هو الذي جعله الله فيه غريزة،والمكسوب هو الذي يُكْتَسب بالتجارب والرياضات.. وهل الأرواح قبل الأشباح كان لها عقل أم لا؟ والتحقيق أنها كانت لها عقول مُقْتَبسة من العقل الأكبر فلذلك أقَرّت بالربوبية بل كانت عَلامَة دَرّاكة للأشياء كما قال إبن البنا: “والمعرفة والإدراك إنما يكونان بالعقل..
47_(التوحيد) : وهو على قسمين: (توحيد البرهان) وهو إفراد الحق بالأفعال والصفات والذات من طريق البُرهان، و(توحيد العِيّان) وهو إفراد الحق بالوجود في الأزل والأبد. و قال الجنيد رضي الله عنه: “هو معنى تَضْمحل فيه الرّسوم وتَنْدرج فيه العلوم ويكون الله كما لم يزل”. وأصوله خمسة أشياء: (رَفْع الحَدث وإفراد القِدَم وهُجران الإخوان ومُفارقة الأوْطان ونِسْيان ما علم وما جهل). قلت: والمعنى الذي تَضْمحلّ فيه الرّسوم هو ظهور أسرار الذات،فإذا وَقع الكَشْف عنها بغَيْبة حِسّ الكائنات التي هي أواني لتلك المعاني إنْفَرد الحق بالوجود ويكون فيها لم يزل كما كان في الأزل،فيَرْتفع الحَدِث ويَنْفرد القِدَم،ويَهْجُر صاحب هذا الذّوْق جميع الإخوان إلا من يَسْتعين بهم على ربّه،ويُفارق الأوطان في طَلَب الحق لأن الهجرة سُنّة،ويَنْسى ما عَلِم وما جَهِل أي يَغيب عنه في جَنْب الكَنْز الذي ظفر به. وسُئل الجنيد أيضا عن التوحيد فقال: (لَوْن الماء لون إنائه)،ومعنى كلامه أن الذات العَلية كانت لَطيفة خَفِية نورانية فلما تَجلّت بالرّسوم والأشكال تَلَوّنت بتلوّنها..ومقامات التوحيد غير متناهية لأنها تتزايد بتزايد الكشف والترقّي،ففوق التوحيد (التّفْريد)، فإنه أرَقّ من التوحيد وأعْلى،لأن التوحيد يَصْدُق على توحيد أهل العلم والتّفْريد خاص بأهل الذّوْق.وفوق التّفريد:(الأحدية والإيحاد والفردانية والوحدانية والإنفراد) وهكذا رُتَبتهم في القوة: ف(الأحَدية) مُبالغة في الوَحْدة، و(الإيحاد) مَصْدر أوْحَد الشيء إذا صار واحدا،و(الفردانية والوحدانية والإنفراد) معناها إفْرَاد الحق بالوجود ولا يكون إلا بعد إنطباق بَحْر الأحدية على الكل بحيث لم يَبْق وجود لغيره قط وهو يَذوق ذلك ذَوءقاً ويَغْرق فيه غَرقاً ويُقال لأهل هذا المقام (الأفراد والآحاد) وهُم “أكْمَل من القُطب في العلم بالله”،كما قال الحاتمي،وخارجون عن دائرة تَصرّفه،والله تعالى أعلم.
48_(حقيقة الذات العلية) : هي ذات كُلية أزَلية لطيفة مُتَجلية بالرّسوم والأشكال مُتّصفة بصفات الكمال،واحدة في الأزل وفيما لا يزال.هذا رَسْمُها بالخواص،وأما كُنْه الحقيقة فلا يُحيط بها إلا هو تعالى..
49_(العما) : (معناه السحاب) هو عبارة عن صفات الذات العلية في الأزل قبل التَجلّي.وحقيقته: فضاء لطيف خَفي صافى لا يُدرك،لا حَدّ لفَوْقيته ولا تَحْتية ولا لجوانبه الأربع،ولا نهاية لأوليته ولا لآخريته،خال عن الرّسوم والأشكال،مُتّصف بأوصاف الكمال من القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام..ثُمّ تَجلّت بالرّسوم والأشكال بحيث صار اللطيف كثيفاً والخَفي ظاهرا والغيب شهادة،فما كان في الأزل هو عين ما تَجلّى به في الأبَد،كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان..
50__(الفناء والبقاء) : إذا أطلق (الفناء) إنما يَنْصرف للفناء في الذات،وحقيقته مَحْو الرّسوم والأشكال بشُهود الكبير المُتعال وإسْتهلاك الحِسّ في ظهور المعنى. وقال أبو المواهب: (مَحْو وإضمحلال،وذهاب عنك وزَوال)،وقال أبو سعيد بن الأعرابي: (هو أن تَبْدو العَظمة والجلال على العبد فتُنْسيه الدنيا والآخرة والأحوال والدرجات والمقامات والأذكار،يُفْنيه عن كل شيء وعن عقله وعن نفسه وفنائه عن الأشياء،وعن فنائه عن الفناء،لأنه يَغْرق في التّعظيم)،أي تتجلّى له عظمة الذات فتُفنيه عن رؤية الأشياء ومن جُملتها نفسه فيَصير عين العين ويَغْرق في بحر الأحدية.وقد يُطلق الفناء على (الفناء في الأفعال) فلا يَرى فاعلا إلا الله،وعلى (الفناء في الصفات) فلا قدير ولا سميع ولا بصير إلا الله، يعنى انه يرى الخلق مَوتى لا قدرة لهم ولا سمع ولا بصر إلا بالله،وبعد هذا يَقع (الفناء في الذات).. وأما (البقاء) فهو الرجوع إلى شهود الأثر بعد الغَيْبة عنه أو شهود الحِسّ بعد الغيبة عنه بشهود المعنى،لكنه يَراه قائما بالله ونوراً من أنوار تَجلياته،إذ لولا الحِسّ ما ظهرت المعنى ولَولا الواسطة ما عُرِفَ الموسوط.. فالحق تعالى تَجلّى بين الضّدّين بين الحس والمعنى وبين القدرة والحكمة وبين الفرق والجمع،فالغيبة عن أحد الضدين فناء ورُؤيتهما معا بقاء.فالغيبة عن الحس وعن الحكمة وعن الفرق “فناء”،ومُلاحظتهما معا “بقاء”. فالبقاء إتّساع في الفناء بحيث لا يَحْجُبه جَمْعه عن فرقه ولا فناؤه عن بقائه ولا شهود القدرة عن الحكمة،بل يُعطى كل ذي حق حَقه ويُوَفّي كل ذي قسط قسطه..
51_(القُدْرة والحِكْمة) : (القدرة) عبارة عن إظهار الأشياء على وِفْق الإرادة. و(الحكمة) عبارة عن تَسَتّرها بوجود الأسباب والعِلَل. فالقدرة تُبْرز،والحكمة تَسْتُر.والقدرة لا تَنْفكّ عن الحكمة إلا نادراً في معجزة أو كرامة أو شعوذة.وقد تُطْلق القدرة على الذات بعد تَجلّيها من إطلاق الصّفة على الموصوف،والحكمة ما يَسْتُرها من الحِسّ وأوصاف البشرية وأحكام العبودية .فظهوره تعالى بمُقتضى إسمه (الظاهر) يُسمى قُدرة،وبطونه في ظهوره بمقتضى إسمه (الباطن) يُسمى حكمة.فتَجلّيه تعالى من عالم الغيب إلى عالم الشهادة قُدرة،وخفاؤه في ظهوره حكمة.وإليه يُشير إبن عطاء الله بقوله: (سُبحان من سَتَر سِرّ الخُصوصية بظهور وَصْف البشرية،وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية)..
52_(الفَرْق والجَمْع) : (الفرق) عبارة عن شهود حِسّ الكائنات والقيام بأحكامه وآدابه من العبادة والعبودية.و(الجمع) عبارة عن شهود المعنى القائم بالأشياء مُتّصلاً بالبَحْر المُحيط الجَبروتي.أو نقول: الفرق شهود القوالب،والجمع شهود المظاهر فالقوالب مَحَلّ الشّرائع،والمظاهر عَيْن الحقائق..قال أبو علي الدقاق: (الفرق ما نُسِبَ إلَيْك،والجمع ما سُلِبَ مِنك).فالفرق بلا جمع فُسوق وجُمود وجَهْل بالله تعالى،والجمع بلا فرق زَنْدقة وكُفر إن لم يَكُن سُكر لأنه يُؤدّي إلى إبطال الشرائع التي جاء بها الرسل وإلى إبْطال الحكمة. والقدرة لا تَنْفك عن الحكمة،فالواجب أن يكون العبد مجموعاً في فَرْقه مَفروقا في جَمْعه. الجمع في الباطن موجود،والفرق على الظاهر مشهود..
53_(الحِسّ والمَعْنى) : (الحس) عبارة عن تَكْثيف الأشياء ظاهراً. و(المعنى) عبارة عن تَلْطيفها باطناً. فحِسّ الكائنات أوان حاملة للمعاني. قال الششتري: (لا تَنْظُر إلى الأواني وخُضْ بَحْر المعاني لَعلّك تَراني).. فمثال الكون كالثلجة ظاهرها ثلج وباطنها ماء،كذلك الكون ظاهره حِسّ وباطنه مَعْنى،والمعنى هي أسرار الذات اللطيفة القائمة بالأشياء،فقد سَرَت المعاني في الأواني سريان الماء في الثلجة..فلا قيام للحس إلا بالمعنى،ولا ظهور للمعنى إلا بالحسّ..فظهور المعنى بلا حِسّ مُحال،وشهود الحس بلا معنى جهل وظُلمة..فلا يُرى الحق تعالى إلا بواسطة التجليات في هذه الدار وفي تلك الدار..
54_(المُلْك والمَلكوت والجَبروت) : (الملك) ما ظهر من حِسّ الكائنات.و(الملكوت) ما بَطُنَ فيها من أسرار المعاني.و(الجبروت) البحر المُحيط الذي تَدفّق عنه الحِسّ والمَعْنى..فحقيقة المُلْك (ما يُدرَك بالحِسّ والوَهْم)،وحقيقة المَلكوت (ما يُدرك بالعلم والذّوْق)،وحقيقة الجبروت (ما يدرك بالكَشْف والوُجْدان)..فالوجود واحد،وإنما تختلف التّسمية باعتبار الرّؤية والتّرقية.فمن وقف مع حس الكائنات وحُجب بها عن المعنى سُمّيَ في حقّه (مُلْكاً)،ومن نفذ إلى شهود المعاني سمي في حقه (ملكوتاً)،ومن نظر إلى أصل القبضة التي برزت منه سماه (جبروتاً).فإن ضمّ الفروع إلى الأصول أو تلطفت الأواني حتى صارت كلها معان،وإنطبق بحر الأحدية على الكل،صار الجميع جبروتاً..فكل مَقام يَحْجُب عما قَبْله،فالملكوت يَحْجُب عن شهود المُلْك،والجبروت يَحجب عن الملكوت إلا بالتنزّل في حال السلوك،والله تعالى أعلم..
55__ (النّاسوت واللاّهوت والرّحَموت) : (النّاسوت) عبارة عن حِسّ الأواني،و(اللاّهوت) عبارة عن أسرار المعاني/ومَرْجع الأول للملك،والثاني للملكوت/،و(الرّحَموت) عبارة عن سَريان اللطف والرحمة في جميع الأشياء جلالها وجمالها،ومن ظَنّ إنْفكاك لُطف الله عن قَدَره فذلك لقُصور نَظره..
56__(التّواجُد والوَجْد والوُجْدان والوُجود) : (التّواجُد) تَكلّف الوُجْد وإستعماله كإستعمال الرّقص والشّطح والقيام وغير ذلك،وهو غير مُسَلّم إلا للفُقَراء المُتَجرّدين،فلا بَأس بتَكلّف الوُجْد وإستعماله كما يُطْلَب الحال دَواء للنفوس،وهو مقام الضّعفاء،وقد يستعمله الأقوياء مُساعفة أو حلاوة. قيل لأبي محمد الجريري: “ما حالك في السماع؟ فقال: إذا حَضَر هناك مُحْتَشم أمْسَكت وُجْدي،وإذا خَلَوْت أرْسَلت وُجْدي فتَواجدت”. و أما الجنيد فكان أوّلاً يَتواجد ثُمّ سَكَن،فقيل له: “يا سيدي أما لَكَ في السماع شيء؟ فقال: (و ترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب)”. قلت: وقد حَضَرت سماعاً مع شيخنا البوزيدي رضي الله عنه فكان يَتمايل يميناً وشمالاً..وحدثني من حَضَر سماعاً مع شيخه مولاي العربي الدرقاوي فقال: (مازال قائماً يَرْقُص حتى كَمُل السماع)..ولا يُنْكر السماع إلا جامد جاهل خال من أسرار الحقيقة.. وأما (الوَجْد) فهو الذي يَرد على القلب ويُصادفه بلا تأمّل ولا تكلّف،إما شَوْق مُقْلق أو خَوْف مُزْعج. هو بَعْد التّواجد..ويقال: التّواجد ثَمَرة المُنازلة في أسرار الحقائق،كما أن حلاوة الطاعات ثمرات المنازلة في الطاعات الظاهرة،فكلما إشْتَدّ التحقّق بأسرار الحقائق والتوحيد قَوِيَ الوَجْد،كما أنه كلما إشتد الدّوام على الطاعة قَويت حلاوتها.. وأما (الوُجْدان) فهو دَوام حلاوة الشّهود وإتّصالها مع غَلَبة السّكر والدّهَش،فإن إسْتَمر مع ذلك حتى زالت الدّهْشة والحَيْرة،وصَفَت الفكرة والنّظرة،فهو (الوُجود)..
57__(الذّوْق والشّرْب والسّكْر والصّحْو): (الذّوْق) يكون بعد العلم بالحقيقة،وهو عبارة عن بُروق أنوار الذات القديمة على العقل،فيَغيب عن رُؤية الحُدوث في أنوار القِدَم،لكنه لا يَدوم ذلك،بل يَلْمع تارة ويَخْفى تارة،فصاحبه يَدخُل ويَخرُج،فإذا لَمَع غاب عن حِسّه وإذا خَفِيَ رَجع إلى حِسّه ورُؤية نفسه..فإن دام له ذلك النّور ساعة أو ساعتين فهو (الشّرب).. وإن إتّصَل ودام فهو (السّكر) ومَرْجعه إلى فناء الرسوم في شهود الحي القيوم والغَيْبة عن الأثر في شهود المُؤثّر،ويُسمّى أيضا (الفناء)..فإن رَجع إلى شُهود الأثر وقيامها بالله وأنها نور من أنوار الله فهو (الصّحْو)،ويُسمى أيضا ب(الرَيّ) وب(البقاء) لإبْقاء الأشياء بالله بعد فنائها،ويُسمى أيضا (فناء الفناء) لأنه عَلِم أنه لم يكن ثَمّ شيء يُفْنيه غير الوَهْم والجهل وهما لا حقيقة لهما..
58__(المَحْو والإثبات) : (المَحْو) الغَيْبة عن الكائنات فَناءً.و(الإثبات) إثباتها بَقاءً.. ويُطلق على مَحْو الأوصاف الذّميمة، وإثْبات الأوصاف الحميدة.. وهى ثلاث: (مَحْو الزّلّة عن الظواهر،ومَحْو الغفلة عن الضمائر،ومحو العِلّة عن السرائر). ففي مَحْو الزلّة إثبات (التوبة)،وفى محو الغفلة إثبات (اليقظة)،وفى محو العلة إثبات (الصّفاء)..
59__(السّتْر والتّجَلّي) : (السّتْر) عندهم عبارة عن غَيْبة العبد عن رَبّه تَرْويحاً وتَنزّلاً وشُغْلاً بشأن من الشؤون. و(التّجلّي) عبارة عن كَشْف العبد بعَظمة ربّه،وهذا قبل الرّسوخ،وأما بعد الرّسوخ فلا غَيْبة له.. فالعوام في غِطاء السّتْر على الدوام،والخواص ما بين كشف وغطاء،وخواص الخواص في دَوام التّجلّي. فالسّتر للعوام (عقوبة).وللخواص (رحمة)،إذ لَولا أنهم يُسْتَر عنهم في بعض الأحيان لتلاشوا عند سلطان الحقيقة،ولكنه كما يَظْهر لهم يُسْتر عنهم.فالخواص بين عَيْش وطَيْش،إذا تَجلّى لهم طاشوا وإذا سُتِرَ عنهم رُدّوا إليهم فعاشوا..
60__(المُحاضَرة والمُكاشفة والمُسامرة) : (المُحاضرة) حُضور القلب مع الرب ويكون من وَراء الحجاب،إما بتواتر البرهان أو بفكرة الإعتبار أو بإستيلاء سُلطان الذكر على القلب.. ثُمّ بعده (المُكاشفة) وهى حُضور القلب مع الربّ بنَعْت البَيان غير مُفْتَقر في هذه الحالة إلى تأمّل الدليل وتَطَلّب السّبيل،ويكون أيضا مع الحِجاب بنَعْت القُرب في مقام المُراقبة وهو للعباد والزهاد ونهاية الأسرار،وأما مُكاشفة ضمائر الناس فليست بمقصودة عندهم قد يُعْطاها من لم يبلغ لهذا المقام..وبعد المحاضرة والمكاشفة (المُسامرة) وهى ظُهور أسرار الذات فيَغيب العبد عن وجوده ويَغْرف في بحر الأحدية ساعة أو ساعتين ثُمّ يرجع إلى شاهده وحِسّه.. ثم بعدها (المُشاهدة) وهى دَوام شُهود الحق بلا تَعب أو وُجود الحَق بلا تُهمة..قال القشيري: (فصاحب المُحاضرة مَرْبوط بآياته،وصاحب المُكاشفة مبسوط بصفاته،وصاحب المُشاهدة مُلقى بذاته)،وقال القشيري أيضاً: (صاحب المُحاضرة يَهْديه عقله،وصاحب المُكاشفة يُدْنيه علمه،وصاحب المُشاهدة تَمْحوه معرفته)..وأجمع ما قيل في المُشاهدة أنه “تَوالي أنوار التّجلي على القلب من غير أن يَتخلّلها سِتْر وإنقطاع”،كما لو قُدّر إتّصال البُروق في الليلة الظّلْماء فإنها تَصير في ضوء النهار،وكذلك القلب إذا دام له دَوام التّجلي فلا لَيْل..
61__(اللّوائح واللّوامع والطّوالع) : وهى ألفاظ مُتقاربة،وهى لأهل البدايات حين تَبْرُق عليهم أنوار الشّهود ثُمّ تُسْتَر.. فتكون أوّلاً لَوائح،ثم لَوامع،ثم طوالع.. ف(اللوامع أظْهَر من اللوائح)،و(الطوالع أظْهَر من اللوامع).فقد تَبْقى اللوامع ساعتين أو ثلاث بخلاف اللوائح فإنها أخَفّ لزوالها بسرعة.. وأما (الطوالع) فإنها أبْقَى وَقْتاً وأقوى سُلطانا وأذْهَب للظلمة وأنْفَى للتّهْمَة،لكنها على خَطَر الأفول لم يَتمكّن صاحبها من طلوع شمس عرفانه،فأوقات حُصولها وشيكة الإرتحال وأحوال أُفولها طويلة الأذيال،لكن إذا غَرُبت أنوارها بَقيت آثارها،فصاحبها إذا غَرُبت أنوارها يَعيش في بَركات آثارها إلى أن تعود ثانيا هكذا حتى تَطْلُع شمس نهاره بتمَكّنه فلا مَغيب لها حينئذ..
62__(البَواده والهُجوم) : (البَواده) ما يَفْجَأُ القلب من ناحية الغَيْب على سبيل البَغْتة،إما مُوجب فَرح أو تَرَح. و(الهُجوم) ما يَرد على القلب بقُوّة الوقت من غير تَصَنّع ولا كَسْب..وتختلف أحوالهم بحسب ضعفهم وقوتهم،فمنهم من تُغَيّره البواده وتَنْصرف فيه الهواجم، ومنهم من يكون فوق ما يَفْجأه حالاً وقوة لا تُغَيّره الهَواجم ولا تَتصرّف فيه البَواده ولا تُزعجه الهُموم ولا تُحرّكه المَخاوف،أولئك سادات الوقت،وهم أهل الرّسوخ والتّمْكين جعلنا الله منهم آمين..
63__(التّلْوين والتّمْكين) : (التّلْوين) هو الإنتقال من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام،وقد يَسْقُط ويَقوم،فإذا وَصَل إلى صريح العرفان وتَمكّن من الشهود فصاحب (تمَكْين).. فصاحب التّلوين أبداً في الزيادة وصاحب التّمكين وَصَل وتَمكّن. فإنْتهاء سَيْرهم الظّفر بنُفوسهم،فإن ظفروا بها فقد وصلوا فإنْخَنست أوصاف البشرية وإسْتَولى عليها سُلطان الحقيقة،فإذا دام ذلك للعبد فهو صاحب تَمْكين..وقد يكون التلوين بعد التمكين،ومعناه النّزول في المقامات كنزول الشمس في بُروجها،فيتلوّن العارف مع المقادير ويَدور معها حيث دارت ويتلوّن بتلوّن الوقت فيكون بين قَبْض وبَسْط وقوة وضعف ومَنْع وعطاء وسُرور وحزن وغير ذلك من تقلبات الأحوال،غير أنه مالك غير مملوك لا يتغيّر بتغيّر الأحوال ولا يتأثّر بتأثّر الزّلازل والأهوال،والله تعالى أعلم.
64__(القُرْب والبُعْد) : (القُرْب) كناية عن قُرب العبد من رَبّه بطاعته وتَوْفيقه،وهو على ثلاث مراتب: (قرب بالطاعة وتَرْك المخالفة،وقرب بالرياضة والمجاهدة،وقرب بالوصول والمشاهدة). فقرب الطالبين بالطاعة،وقرب المريدين بالمجاهدة،وقرب الواصلين بالمشاهدة. فأوّل البُعد (البُعد عن التّوفيق)،ثُمّ (البُعد عن سُلوك الطريق)،ثُم (البُعد عن التّحقيق)..
65_ (الشّريعة والطّريقة والحَقيقة) : (الشريعة) تَكْليف الظواهر،و(الطريقة) تَصْفية الضمائر،و(الحقيقة) شُهود الحق في تَجليّات المظاهر. ف(الشريعة أن تَعْبُده) و(الطريقة أن تَقْصده) و(الحقيقة أن تَشْهده). فلمّا تَجلّى الحق بين الضّدّين ف(تجلّى بمظاهر الربوبية في قَوالب العُبودية) ظَهرت الشريعة والحقيقة.فشُهود العَظمة من حيث هي حقيقة،والقيام بآداب القوالب،عبادة وعبودية،شريعة.وأما الطريقة فهي إصلاح الضمائر لتَتهيّأ لإشراق أنوار الحقائق عليها. فالشريعة لإصلاح الظواهر،والطريقة لإصلاح الضمائر،والحقيقة لتَزْيين السّرائر..فالأسباب كلها شرائع،والمقاصد كلها حقائق. فالحِسّ شريعة المَعْنى إذ به قُبِضَت،والمُجاهدة شريعة المُشاهدة،والذّلّ شريعة العِزّ،والفقر شريعة الغِنى،وهكذا..والحَرْث والغَرْس شريعة جَنْي الثّمار،ولذلك يقولون: (من غَرَس الشرائع أثْمَرت له الحقائق،ومن غَرَس الحقائق أثْمَرت له الشرائع) أي أخْرَجته إلى الرّجوع إلى الشرائع…
66_(الذّات والصّفات) : الحق جل جلاله ذات وصفات في الأزل وفي الأبد،أعني قبل التَجلّي وبعده،إذ صفاته قديمة بقِدَم ذاته،والصفة لا تُفارق الموصوف،فحيث تَجلّت الذات فالصفات لازمة لها كامنة فيها،وحيث ظهرت الصفات فالذات لازمة لها،فالذات ظاهرة والصفات باطنة..وهذا التّلازم بين الذات والصفات هو الذي قَصَد من قال: (الذّات عَيْن الصفات) أي مَظْهرُهما واحد..ولا يَصُدّنك عن شُهود الذات رِداء الحِسّ المنشور على وجه المعاني،فإن هذا الأمر من مَدارك الأذواق والوجدان لا من طريق دليل العقل والبرهان..وإعلم أن الذات لا تَتجلّى إلا في مظاهر أثر الصفات، إذ لو تجلت بلا واسطة لإضْمَحلت المُكونات وتَلاشت،ولذلك يقولون: (تَجلّي الذات جلالي،وتَجلّي الصفات جمالي)،لأن الذات بلا واسطة يَمْحق ويَحْرق،وتَجلّى الصفات يكون بالأثَر فيكون معه الشّهود والمعرفة فهو جمالي. ثُمّ تَوسّعوا فأطلقوا على كل ما هو جلالي ذات،وكل ما هو جمالي صفات،على سبيل التّشْبيه،فقالوا: الفقر ذات،والغنى صفات،الذّلّ ذات،والعِزّ صفات،الصّمْت ذات،والكلام صفات،وهكذا..
67_(الأنْوار والأسْرار) : (الأنْوَار) عبارة عمّا ظَهَر من كثائف التّجليّات، و(الأسرار) عبارة عما بَطُن فيها من المعاني اللطيفة. ف(الأسرار أرَقّ من الأنوار). فالأسرار للذات،والأنوار للصفات لأنها أثرها. فالذات بعد التّجلّي بين أنوار ظاهرة وأسرار باطنة، وأما في حالة الكَنْزية فما كان إلا الأسرار. فالجَبَروت كلّه أسرار،والملكوت أنوار،والمُلْك أغْيار وأكْدار. فالوُجود واحد: فمن نظر إلى باطنه لم يَرَ إلا الأسرار،ومن نظر إلى ظاهره بعَيْن الجمع لم يَرَ إلا الأنوار،ومن نظر بعَيْن الفَرْق لم يَرَ إلا الأغيار.. وإنما سُميت تَجليات الحق أنوار على وجه التّشبيه،لأن من شأن النور أن يَكْشف الظلمة ويُذهبها،وكذلك تَجلّي الحق يَكْشف عن ظُلمة الجهل ويُظهر العلم به،ولذلك قالوا: (العلم نور والجهل ظلمة) على وجه الإستعارة..وأما (السِرّ) فهو الأمر الخَفِي الذي لا يُدرك،فلذلك قالوا في حق “الخَمْرة الأزلية والمعاني القديمة” أسرار،وسمّوا “الأرواح بعد التّصْفية” أسرار لأنها لما تَصفّت رجعت لأصلها وهي قطعة من السِرّ الجَبروتي القديم،فإذا إسْتَولت على الأشباح رَجع الجميع قديما،والله أعلم.
68__(الضّمائر والسّرائر): فقيل معناهما واحد، وقيل: السّرائر أرَقّ وأصْفى،كما أن الروح أرَقّ من القلب. لأن (الضمائر) كل ما خَفِيَ في الباطن خيراً أو شراً،و(السرائر) ما كَمُن فيه من المَحاسن..والتّحقيق أنهما شيء واحد عبارة عمّا كَمُن في الباطن من العقائد والنيات بدليل الآية: (يَومَ تُبلَى السَرَائِرُ) والله تعالى أعلم.
69__(النّفَس) : بالتحريك، قال القشيري: “يَعْنون به تَرْويح القلوب بلَطائف الغُيوب. فصاحب الأنْفاس أرْفَع من صاحب الأحوال ومن صاحب الوقت.فكأن صاحب الوقت مبتدئ،وصاحب الأنفاس منتهي،وصاحب الأحوال بينهما. فالأوقات لأصحاب القلوب،والأحوال لأصحاب الأرواح،والأنفاس لأهل السّرائر”. قلت: (النّفَس أدَقّ من الوقت)، فحِفْظ الأوقات من التّضْييع للعباد والزهاد،وحفظ الأنفاس للعارفين الواصلين،وإستعمال الأحوال للمريدين. والمُراد ب(حِفْظ الوقت) حُضور القلب فيه،وب(حفظ النفس) حُضور السِرّ في مشاهدة الحق. يقال: (فُلان طابت أوقاتُه إذا وجد حلاوة مُعاملته بحضور قلبه،وفُلان طابت أنْفاسه إذا صَفا مَشْربه من عين التوحيد من كُدورة الأغيار)..فقوله في حَدّ النّفَس (تَرْويح القلوب) أي خُروجها من تَعَب العِسّة ودَوام المُراقبة إلى راحة المُشاهدة بما يَبْدو لها من لَطائف أسرار التّوحيد وفضاء الشّهود.. ثم قال القشيري: وقالوا (أفضل العبادة حِفْظ الأنفاس) أي دَوام الفكرة والنّظْرة.. قال أبو على الدقاق: “العارف لا يَسْلم له النّفَس،أي تَضْييعه،إذ لا مُسامحة تَجْري معه.والمُحِبّ لابد له من النّفَس،إذ لولا ذلك لتَلاشى لعَدَم طاقته”. فالعارف لما إتّسَعت معرفته سَهُل عليه حِفظ أنفاسه لسُهولة حُضوره وتَمكّن شُهوده،بخلاف المُحبّ فلضَيْق حاله لا يستطيع دوام حُضوره في خدمته،وعلى تقدير سُهولتها عليه لفَنائه فيها قد تَخْتَلّ بشريته،ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (رَوّحوا قلوبكم بشيء من المُباح) أو كما قال صلى الله عليه وسلم لحنظلة والصديق (لو تَدومون على ما أنتُم عليه عندي لصافحتكم الملائكة ولكن ساعة بساعة)..
70__(الفِكْرة والنّظْرة) : (الفكرة) جَوَلان القلب في تَجليّات الرب.وقال صاحب الحِكَم: (هي سَيْر القلب في ميادين الأغيار) وهذه فكرة الطالبين،وفكرة السّائرين (سَيْر القلب في ميادين الأنوار)،وفكرة الواصلين (سَيْر الروح في ميادين الأسرار). وتَرْجع إلى فكرتين: (فكرة تَصْديق وإيمان) وهى لأهل الإعتبار من عامة أهل اليمين،و(فكرة شُهود وعِيّان) وهى لأهل الإسْتبصار من نُجَباء المريدين وخاصة العارفين المُتَمكّنين.وهي (سِراج القلب) فإذا ذهبت فلا إضاءة له،وهى سَبَب الغِنى الأكبر،وبها يَتحقّق السّيْر ويَحْصُل الوصول،فمن لا فكرة له لا سَيْر له ومن لا سَيْر له لا وُصول له.. وكان شيخنا البوزيدي يقول: (الفقير بلا فكرة كالخياط بلا إبرة).. وأما (النّظْرة) فهي أدَقّ من الفكرة وأرْفَع،لأنها مبدأ الشّهود بالجَولان في الأكوان.وهَدْمُهما وتَلطيفها فكرة، والنظرة في نفسه أو غيره من التّجليّات وغَيْبته عنها بشُهود الحق نَظْرة. فإن تَمَكّن من الشهود ودام فيه سُمّيَ (العُكوف في الحَضْرة). ولذلك يقال: (أوّل المقامات ذِكْر ثُم فكرة ثُم نَظْرة ثم عُكوف في الحضرة)،والله تعالى أعلم.
71__(الشّاهد) : قال القشيري: “قد يَجْري في كلامهم فُلان بشاهد العلم وفلان بشاهد الوَجْد وفلان بشاهد الحال،ويُريدون بلفظ (الشاهد) ما يكون حاضر قلب الإنسان وما هو غالب ذكره،كأنه يَراه ويُبْصره وإن كان غائباً عنه.وكل ما يَسْتولي على قلب الإنسان ذِكْرُه فهو شاهده،فإن كان الغالب عليه ذكر العلم فهو بشاهد العلم،وإن كان الغالب عليه الوُجْد فهو بشاهد الوجد”. ومعنى (الشاهد الحاضر) فكل ما هو حاضر قلبك فهو شاهدُك..
72__(الخَمْرة والكأس والشّراب) : أما (الخَمْرة) فقد يُطلقونها على الذات العَليّة قبل التّجلّي وعلى الأسرار القائمة بالأشياء بعد التّجلي، فيقولون: الخمرة الأزلية تجلت بكذا ومن نعتها كذا،وقامت بها الأشياء،تَسَتّراً على سِرّ الربوبية..وإنما سَمّوها خَمْرة لأنها إذا تَجَلّت للقلوب غابت عن حِسّها كما تَغيب بالخمرة الحِسّية. وقد يُطلقونها على نفس السّكر والوُجْد والوُجْدان، يقولون: كنا في خمرة عظيمة أي في غَيْبة عن الإحساس كبيرة.. أما (الكأس) الذي تُشْرَب منه هذه الخمرة فهو كناية عن سُطوع أنوار التّجلي على القلوب عند هَيَجان المَحبّة،فتدخُل عليها حلاوة الوُجْد حتى تَغيب،وذلك عند سماع أو ذكر أو مُذاكرة.. وقيل: (الكأس هو قلب الشيخ)،فقلوب الشيوخ العارفين كيسان لهذه الخمرة،يَسْقونها لمن صَحبهم وأحبّهم.. و(الشّرب) حُضور القلب أو إستعمال الفكرة والنظرة حتى تَغيب عن وُجودك في وجوده،وهو السّكر. فالشّرب والسّكر مُتّصلان في زمن واحد في هذه الخمرة بخلاف خمرة الدنيا. وقال القطب إبن مشيش: (المَحبة آخذة من الله قلب من أحَبّ بما يَكْشِف له من نور جماله وقُدْس كمال جلاله.وشراب المحبوب مَزْج الأوصاف بالأوصاف والأخلاق بالأخلاق والأنوار بالأنوار والأسماء بالأسماء والنّعوت بالنّعوت والأفعال بالأفعال،ويَتّسع النظر لمن شاء الله عز وجل.والشراب بسَقْي القلوب والأوصال والعروق من هذا الشرب، ويكون الشّرب بالتّدريب بعد التدريب والتّهذيب،فيُسْقى كل على قَدْره،فمنهم من يُسْقى بغير واسطة والله تعالى يتولى ذلك منه، /قلت: وهذا نادر/ ،ومنهم من يُسقى من جهة الوسائط كالملائكة والعلماء والأكابر من المقرّبين)، ثم قال: (والكأس مِغْرفة الحق يَغْرف بها من ذلك الشراب الطّهور المَحْض الصّافى لمن شاء من عباده المخصوصين) إلى آخر كلامه،وقد فسرناه في شرح الخمرية.
73__(المُريد والفَقير والمُلامِتي والمُقَرّب) : أما (المُريد) فهو الذي تَعَلّقت إرادته بمعرفة الحق،ودَخل تَحْت تربية المشايخ. وأما (الفقير) فهو الذي إفْتَقر ممّا سِوى الله ورَفض كل ما يَشْغلُه عن الله،ولذلك قالوا: (الفقير لا يَمْلِك ولا يُمْلَك) أي لا يَملك شيئاً ولا يُملكه شيء،فهو أنْهَض من المريد وأخَصّ،لأن المُريد قد يكون من أهل الأسباب،وقيل: (الفقير هو الذي لا تُقِلّه الأرض ولا تُظِلّه السماء) أي لا يَحْصره الكون لرَفْع هِمّته ونُفوذ بَصيرته،وقال بعضهم شُروط الفقير أربعة: (رَفْع الهِمّة،وحُسن الخدمة،وتَعْظيم الحُرمة،ونُفوذ العزيمة). وأما (المُلامِتي) فقالوا هو الذي لا يُظْهر خيراً ولا يُضْمر شراً،أي هو الذي يُخْفي وَلايته ويُظهر من الأحوال ما يُنَفّر الناس عنه. و(المُقَرّب) هو المُحَقّق بالفناء والبقاء..قال بعضهم: (الفقر والمُلامتة والتّقْريب أنواع من التصوف ومراتب فيه)،فإن الصوفي هو العامل في تَصْفية وَقْته مما سِوى الحق،فإذا سَقَط ما سِوى الحَقّ من يَده فهو الفَقير،وإن كان لا يُبالى بالناس فلا يُظهر خيراً ولا يُضمر شراً فهو المُلامتي.والمُقَرّب من كَمُلت أحواله فكان برَبّه لرَبه،وليس له عن سِوى الحق إخبار ولا مع غير الله قرار..
74__(العُبّاد والزُهّاد والعارفون) : هذه ألفاظ معانيها مُتقاربة يَجْمعُها معنى (التصوف) في الجملة الذي هو (قَصْد التوجّه إلى الله تعالى)،إلا أن من غَلَب عليه العمل كان (عابداً)،ومن غَلَب عليه التّرْك كان (زاهداً)،ومن وَصَل إلى شُهود الحق ورَسَخ فيه كان (عارفاً). فالعُبّاد والزهاد شَغَلهم بخدمته إذ لم يَصْلُحوا لصَريح معرفته،والعارفون شَغلهم بمَحبّته..
75__(الصّالحون والأولياء والبُدَلاء والنّقَباء والنّجَباء والأوْتاد والأقْطاب): أما (الصالحون) فهُم من صَلُحت أعمالهم الظاهرة وإستقامت أحوالهم الباطنة. وأما (الأولياء) فهم أهل العلم بالله على نَعْت العِيّان /من الوَلِي وهو القُرْب/،وقيل: (هُم من تَوالت طاعتهم،وتَحقّق قُربهم،وإتّصَل مَدَدهم). وأما (البُدَلاء) فهم الذين إسْتَبدلوا المَساوئ بالمَحاسن،وإسْتَبدلوا صفاتهم بصفات محبوبهم. وأما (النّقَباء) فهم الذين نَقّبوا الكون وخَرجوا إلى فضاء شُهود المُكَوّن. وأما (النّجَباء) فهم السابقون إلى الله لنَجابتهم،وهُم أهل الجِدّ والقَريحة من المُريدين. وأما (الأوتاد) فهم الرّاسخون في معرفة الله،وهم أربعة،كأنهم أوتاد لأركان الكون الأربعة. وأما (القُطب) فهو القائم بحَق الكون والمُكَوّن،،وهو واحد.وقد يُطلق على من تَحقّق بمقام،وعلى هذا يَتعدّد في الزمن الواحد أقطاب في المقامات والأحوال والعلوم.يُقال فلان قُطب في العلوم أو قطب في الأحوال أو قطب في المقامات إذا غَلَب عليه شيء منها.فإذا أُريد المقام الذي لا يَتّصف به إلا واحد عُبرّ عنه ب(الغَوْث) وهو الذي يَصِل منه المَدَد الروحاني إلى دَوائر الأولياء من نَجيب ونَقيب وأوْتاد وأبْدال،وله (الإمامة والإرْث والخلافة الباطنة)، وهو (روح الكون) الذي عليه مَداره،كما يُشير إلى ذلك كَوْنُه بمَنزلة إنسان العَيْن من العين،ولا يَعرف ذلك إلا من له قِسْط ونَصيب من سِرّ البقاء بالله. وأما تَسْميته بالغَوْث فمن حيث إغاثتُه العوالم بمادّته ورُتْبَته الخاصة،وله علامات يُعْرف بها، قال القطب الشهير أبو الحسن الشاذلي: (للقطب خمس عشرة علامة..: الأولى أن يكون (مُتَخلّقاً بأخلاق الرّحْمة) على قَدَم موروثه (ص). الثانية أن يُمَدّ ب(مَدَد العِصْمة وهى الحِفْظ الإلهي والعصمة الربانية) كما كان موروثه (ص)،غير أنها في الأنبياء واجبة وفى الأولياء جائزة، ويقال لها “الحِفْظ” فلا يتجاوز حداً ولا يَنْقُض عهداً. والثالثة (الخلافة) وهو أن يكون خليفة الله في أرضه أميناً على عباده بالخلافة النبوية،قد بايعته الأرواح وإنْقادت إليه الأشباح. والرابعة (النيّابة) وهو أن يكون نائباً عن الحق في تَصْريف الأحكام حَسْبما إقْتَضته الحكمة الإلهية،وفى الحقيقة ما ثَمّ إلا القدرة الأزلية. والخامسة أن يُمَدّ ب(مضدَد حملة العرش) من القوة والقُرْب،فهو حامل عَرْش الأكوان،كما أن الملائكة حملة عرش الرحمن. والسادسة أن (يُكْشَف له عن حقيقة الذات) فيكون عارفاً بالله معرفة العِيّان،وأما الجاهل بالله فلا نَصيب له في القُطْبانية. والسابعة أن (يُكْشَف له عن إحاطة الصفات بالكائنات) فلا مُكَوّن إلا وهو قائم بالصفات وأسرار الذات،ومعرفة القطب بإحاطة لصفات أتَمّ من غيره لأنها في حَقّه ذَوْقية لا عِلْمية. الثامنة أن (يُكْرَم بالحُكْم والفَصْل بين الوجودين) أي بين الوجود الأول قبل التّجلّي وهو المُعَبّر عنه بالأزَل وبالكَنْز القديم،وبين الثاني وهو الذي وَقع به التّجلي،والفصل بينها أن يُعْلَم أن الأول رُبوبية بلا عُبودية ومَعْنى بلا حِسّ وقدرة بلا حكمة،بخلاف الثاني فإنه مُتّصف بالضّدّين رُبوبية وعبودية ومعنى وحِسّ وقدرة وحكمة ليَتحقّق فيه إسمه الظاهر وإسمه الباطن.. والتاسعة والعاشرة: أن (يُكْرَم بالحُكْم بإنفصال الأول عن الأول)، والمراد بإنفصال الأول إنفصال نور القبضة عن النور الأزلي الكَنْزي وهو بحر الجبروت،والمراد بما إنفصل عنه ما تفرّع من القبضة إلى مُنتهاه من فروع التّجليات أي في الحال وأما في المآل فلا إنتهاء له لأن تَجليات الحق لا تنقطع أبداً فإذا إنْقَضى الوجود الدّنيوي تَجلّى بوجود آخر أخروي ولا نهاية له. والحادية عشرة: أن (يَعْلم ما ثَبَت في المُنْفَصلات) من المَزايا والكرامات أو ضد ذلك،يَعْنى في الجُملة،وأما التّفْصيل فمن خصائص الربوبية. والثانية عشرة: أن (يعلم حُكم ما قَبْل) أي ما قبل التّجلّي،وحُكمه هو التنزيه المطلق لأنه باق على كَنْزيته لم تَدخُله الضّدّان. والثالثة عشرة: أن (يعلم حكم ما بعد) وهو التّكليف فى مظاهر التعريف قياماً برَسْم الحكمة وسَتْراً لأسرار القدرة. والرابعة عشرة: أن (يعلم ما لا قبل ولا بعد) أي يعلم ما لا قبل لها ولا بعد لها وهى “الخمرة الأزلية والذات الأصلية”..الخامسة عشرة: أن (يَطّلع على علم البَدْء) والمراد علمه تعالى السابق للأشياء قبل أن تكون وهو العلم المُحيط بكل علم وبكل معلوم،إذ لا يخرج عن علمه تعالى شيء،وكل علم وكل معلوم يعود إليه،وهذا هو “سِرّ القدر” فقد يُكاشف القطب على جزئيات منه ولا يُشْترط إحاطته بكلية الأشياء وجزئياتها لأن ذلك من وظائف الربوبية،وإنما يُطْلعه الله تعالى على جزئيات من نوع مخصوص.وقد يكون القطب كاملاً وهو لم يَطّلع على شيء من هذه الأمور إلا أنه عارف بالله راسخ القَدَم في المعرفة،وإذا أراد الله تعالى أن يُظهر شيئا في مملكته أطْلَعه عليه وقد لا يُطْلعه وقد قال (ص): (والله لا أعلم إلا ما علمني ربي) قال ذلك حين ضَلّت ناقته فلم يَدْر أين ذهبت فتكلّم بعض المنافقين في ذلك ثُمّ أعلمه الله تعالى بها. وبالجملة فالإطّلاع على المغيبات من جملة الكرامات،وهى لا تشترط في الولي قطباً كان أو غيره، والله تعالى أعلم..).. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم،هذا آخر ما جمعناه من حقائق التصوف وشرح ما يتعلّق بكل حقيقة،جعله الله خالصاً لوجهه الكريم وأدام به النفع العميم.. ذ موعشي

364 : عدد الزوار