ملخص:المنقذ من الضلال

ملخص=== (المنقذ من الضلال) / الإمام أبو حامد الغزالي

كتاب (المنقذ من الضلال) للإمام أبي حامد الغزالي،لا غنى عنه للباحث في تطور حياة الغزالي الفكرية،ففيه يقُصّ الغزالي حياته الفكرية،في تطورها: من الدراسة المستفيضة،إلى الشك،ثمّ إلى اليقين..وهو من الكتب التي ينذُر ما يُماثلها في ثقافتنا الشرقية،إذ أن كبار المفكرين والعلماء عندنا لم يتّجهوا إلى تسجيل تدرّجهم الفكري،وإنتفاضتهم الذهنية والنفسية.ولم يسبق الغزالي في هذا النهج سوى (الحارث المحاسبي) في مقدمة كتاب (الوصايا)،فإنه قَصّ فيه طرفاً من حيرته وشكّه، ثمّ اليقين الذي إنتهى إليه..

جاء كتاب (المنقذ من الضلال) كجواب عن سؤال..ولخّص الغزالي مجموع ما جاء من مسائل في الكتاب،فيقول: [ فقد سألتني أيها الأخ في الدين،أن أبثّ إليك غاية العلوم،وأحكي لك ما قاسيته في إستخلاص الحق من بين إضطراب الفُرق مع تباين المسالك والطرق.وماإستجرأت عليه من الإرتقاء من حضيض التقليد إلى يفاء الإستبصار.وماإستفدته أولاً من (علم الكلام)،وما إحتويته ثانياً من (طرق أهل التعليم)،القاصرين لدرك الحق على تقليد الإمام.وماإزدريته ثالثاً من (طرق التفلسف)،وما إرتضيته آخراً من (طريقة التصوف)..].

ثمّ إبتدأ (الكتاب / الجواب) بمسألة (الإختلاف) بين الأديان والملل والمذاهب،قائلاً: [إعلموا أن إختلاف الخلق: بحر عميق،غرق فيه الأكثرون،وما نجا منه إلا الأقلّون،وكل فريق يزعم أنه الناجي..ولم أزل في عنفوان شبابي ــ قبل بلوغ العشرين ــ إلى الآن ــ وقد أناف السن على الخمسين ــ: أقتحم لجّة هذا البحر العميق،أتوغّل في كل مظلمة،وأتهجّم على كل مشكلة،وأقتحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة،وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة ـ لأميّز بين مُحق ومُبطل،ومُتسنّن ومُبتدع..].

ثمّ قال: [وقد كان التعطّش إلى دَرْك الأمور دَأبي وديدني،غريزة وفطرة من الله،حتى إنمحت عنّي رابطة التقليد،وإنكسرت على العقائد الموروثة..].

وبعد ذِكْر سبب خروجه عن التقليد،وبحثه عن الحق والحقيقة،خَلُص إلى القول بأن (العلم اليقيني) هو المُعَوّل عليه،يقول الغزالي: [العلم اليقيني: هو الذي ينكشف فيه المعلوم إنكشافاً لا يبقى معه ريب..وكل ما لا أعلمه على هذا الوجه،ولاأتيقّنه هذا النوع من اليقين،فهو (علم لا ثقة به ولا أمان معه)..].

وأمام هذا (العلم اليقيني)،يحكم الغزالي على صورة علومه بقوله: [ثم فتّشت عن علومي،فوجدت نفسي: عاطلاً من علم موصوف بهذه الصفة (أي علم اليقين)..].

__ هذا النّهم في البحث،وهذاالإستقصاء في الدراسة،وهذه العقلية الجريئة النافذة ــ والذي حمل المستشرق “دي بور” بوصفه قائلاً: (وقد وهب هذا الفتى عقلاً متوثّباً، قوي الخيال،لا يرضى بأي قيد يُغلّه) ــ،كل ذلك إنتهى به إلى (الشك) في ما يرى ويسمع ويقرأ،وفي ما يقول ويعتقد.. / دأب الباحثون على وصف هذا الشك ب(الشك المنهجي)،وقد إستفاد منه الفيلسوف ديكارت في فلسفته،وخصوصاً في (الكوجيتو)..

وكان هذا الشك عنيفاً إلى درجة أودت بالغزالي إلى (أزمة نفسية)،جعلته طريح الفراش طيلة شهرين..

وبعد شفائه،تبخّرهذا الشك الشامل،لا بنظم دليل وترتيب كلام،بل [بنور قذفه الله تعالى في الصدر] كما يقول الغزالي.. وحلّ محله شك ثاني،هيّن وسهل،هو شك في طريق النجاة..فإنحصرت عنده (أصناف الطالبين) في أربع فرق: (المتكلمون،والباطنية،والفلاسفة،والصوفية)،هؤلاء هم السالكون سبل طلب الحق،و[الحق لا يعدو هذه الأصناف الأربعة] كما يقول..

فقام الغزالي بتحصيل كل علم،وعقله،ومطالعة كتب محققيه..فذكر مُحصّل كل علم من العلوم الأربعة:

1_ مبتدئاً ب(علم الكلام)،فوجده لا يشفي غلته،ذلك أن أكثر خوض المتكلمين إنما هو: [في إستخراج مناقضات الخصوم،ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم،وهذا قليل النفع في حق من لا يسلم سوى الضروريات شيئاً أصلاً]..

2_ وثنّى بدراسة (الفلسفة)،وأطلعه الله على منتهى علوم الفلاسفة في أقل من سنتين..حتى إطلع على ما إنتهى إليه الفلاسفة من (خداع وتلبيس وتخيّل)..

وقسّم أصناف الفلاسفة إلى ثلاثة أقسام: (الدهريون،والطبيعيون،والإلهيون) / وقد وصفهم ب(الزندقة والكفر)..

كما قسم علومهم إلى ستة أقسام: (رياضية،ومنطقية،وطبيعية،وإلهية،وسياسية،وخُلقية)..

ورأى أنه لا يجب إنكار: (العلوم الرياضية،والمنطقيات،والعلوم السياسية،والعلوم الخُلقية).

وذكر أن أكثر أغاليط الفلاسفة في (قسم الإلهيات)،ومجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلاً، كفّرهم في ثلاثة منها،وبدّعهم في الباقي../ وقد ألّف الغزالي كتاب (تهافت الفلاسفة) لإبطال مذهبهم../ كما أن إبن رشد قد ردّ عليه بكتاب (تهافت التهافت)..

والثلاثة أصول التي (كفّر)بها الغزالي الفلاسفة هي:

أ_ (إن الأجساد لا تُحشر)..ب_ (إن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات)..ج_ (قولهم بقدم العالم وأزليته)..

وإنصرف الإمام الغزالي عن الفلسفة،لأن العقل: [ليس مستقلاً بالإحاطة بجميع المطالب،ولا كاشفاً للغطاء عن جميع المعضلات]../ وقد وصف بعض العلماء الغزالي في إنكاره للفلسفة،بقولهم: (الغزالي بلع الفلاسفة وأراد أن يتقيّأها فما إستطاع)،أي أنه تبنّى مسائل الفلاسفة وحججهم،وتنكّر لهم..

وقد ذكر الغزالي،منصفاً للحق والحقيقة،قاعدة ذهبية في التعامل مع الخصم والمُخالف،فقال: [والعاقل يعرف الحق ثمّ ينظر في نفس القول،فإن كان حقاً قَبله سواء كان قائله مُبطلاً أو مُحقاً،بل ربما يحرص على إنتزاع الحق من أقاويل أهل الضلال..]..

3_ فأخذ يدرس (مذهب التعليمية / الباطنية)،وهو مذهب يقوم على القول إلى ضرورة (المعلم المعصوم) في التعليم..وقد نقد الغزالي مذاهبهم في قوة وفي عنف،وألّف كثيراً من الكتب في الرد عليهم [كتب: (القسطاس المستقيم) و(المستظهري)،بالخصوص]..

4_ ولما إنتهى من هذه العلوم،أقبل بجهد على (طريق الصوفية)،يقول الغزالي: [ثم إني لما فرغت من هذه العلوم أقبلت بهمّتي على طريق الصوفية،وعلمت أن طريقتهم إنما تتمّ ب(علم وعمل)..]..

وإبتدأ بتحصيل علمهم: من مطالعة كتب أئمتهم،مثل (قوت القلوب) لأبي طالب المكي،وكتب الحارث المحاسبي،والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد البسطامي،وغير ذلك من كلام مشايخهم.يقول الغزالي: [حتى إطلعت على كنه مقاصدهم العلمية،وحصلت ما يكمن أن يحصل من طريقهم بالتعلّم والسّماع..].

ولكن طريق الصوفية: لا يتم بالعلم فحسب،بل إن العلم فيه أقلّ جانب من جوانبه،أما الجانب الذي يصل بالإنسان إلى (النور والإشراق واليقين)،إنما هو (الجانب العملي)،وهذا النوع يحتاج إلى الإقبال بكنه الهمّة على الله تعالى،وذلك يقتضي الإعراض عن المال والجاه والشهرة،ويقتضي الخلوة فترة تطول أو تقصر،يتفرّغ فيها الإنسان تفرّغاً كاملاً إلى الله،فاراً مهاجراً إليه..يقول الغزالي: [فظهر لي أن أخصّ خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم،بل ب(الذوق والحال وتبدّل الصفات)..فعلمت يقيناً: أنهم (أي الصوفية) أرباب الأحوال،لا أصحاب الأقوال.وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصّلته،ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعلم،بل ب(الذوق والسلوك)..].

وكان الغزالي إذ ذاك منغمساً في (المال والجاه والشهرة)،ويعترف  بنيته في ذلك الوقت،كما هو شأن جلّ الفقهاء الظاهريين،قائلاً: [ثم تفكّرت في نيّتي في التدريس،فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى،بل باعثها ومحرّكها طلب الجاه وإنتشارالصيت،فتيقنت أني على شفا جرف هار،إن لم أشتغل بتلافي الأحوال..].

وبدأ الصراع في نفسه بين الشهوات والدنيا من جانب،وبين التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود من جانب آخر.

ولم يزل يتردّد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة،قريباً من ستة أشهر،وإنتهى الأمر في هذا التجاذب بأن إعتقل لسانه عن التدريس،وغمر قلبه حزن أثّر على صحته،فضعفت قواه. والغزالي يحدثنا عما فعل حينئذ: [ثمّ أحسست بعجزي،وسقط بالكلية إختياري،فإلتجأت إلى الله تعالى،إلتجاء المضطر الذي لا حيلة له،فأجابني الذي يُجيب المضطر إذا دعاه،وسهّل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأولاد والأصحاب]..

إرْتَحل الغزالي بعد ذلك إلى الشام،أقام به قريباً من سنتين،لا شغل له إلا العزلة والخلوة والرياضة والمجاهدة: [ إشتغالاً بتزكية النفس،وتهذيبا لأخلاق،وتصفية القلب لذكر الله تعالى].وكان يعتكف في منارة مسجد دمشق،طول النهار،ويغلق بابها على نفسه.

ثم رحل من الشام إلى بيت المقدس،فكان يدخل كل يوم الصخرة ويغلق بابها على نفسه..ثم سار إلى الحجاز لأداء فريضة الحج وزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم..

ثم عاد إلى وطنه،ملازماً بيته، ومشتغلاً بالتفكير،وتصفية القلب للذكر..

وكان الغزالي في سياحته،وفي حلّه وترحاله: (مؤثراً العزلة،حريصاً على الخلوة، وتصفية القلب للذكر)..

ودام ذلك ما يقرب من عشر سنوات،إنكشف له فيها أمور لا يمكن إحصاؤها وإستقصاؤها..هنا يترك لنا الغزالي نصاً قيماً،هو نتيجة تجربة روحية عاشها وجنى ثمارها،يلخصلنا حكمه عن طريق أوصله إلى الحق الذي ظل يبحث عنه طيلة حياته،وعانى فيه معاناة شديدة..:

يقول: [علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة،وأن سيرتهم أحسن السير،وطريقهم أصوب الطرق،وأخلاقهم أزكى الأخلاق..فإن جميع حركاتهم وسكناتهم،في ظاهرهم وباطنهم،مقتبسة من نور مشكاة النبوة،وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يُستضاء به]..

وأنهى الغزالي كتابه بمسألة (النبوة)،وموقفه منها،والشكوك التي ترد عليها،ويبيّن الطريق الصواب لإحياء الشعور الديني،حيثما يفتُر عند بعض الناس..وبيّن بأن [خواص النبوة : إنما يُدرك بالذّوق،من سلوك طريق التصوف..]..انتهى

ذ رشيد موعشي.

2٬245 : عدد الزوار