شرح القاعدة 28

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد،وعلى سيدتنا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين،وعلى سيدتنا خديجة الكبرى أم المؤمنين،وعلى آله وصحبه أجمعين.                                                              نُواصل بإذن الله،وبمدد أستاذنا حفظه الله،شرح القواعد المباركة من خريطة السلوك العرفاني لأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله. وقاعدتنا تقول: [ (قالوا أرنا الله جَهرة فأخذتهم الصعقة)،فلو كان الحق تعالى يجوز أن يكون مَرئياً لكان هؤلاء القوم سألوا أمراً جائزاً. ولما إستعظَم الله سؤالهم وغضب عليهم،فالرؤيا مستحيلة ]. 

         القاعدة المباركة تتمحور حول موضوع عرفاني رقيق ودقيق،لم يستقرّ على أساس متين في معرفته إلا أهل الله العارفون به.. وهو موضوع ” الرؤيا  بين الذات والمرتبة “.. وسنُجمل أساسيات الموضوع من خلال معارف العارفين بالله،وتحقيقات مشربنا المبارك. فنقول وبالله التوفيق:                                                                             __ مبدئياً: لم يفرّق،في مسألة معرفة الحق تعالى والكلام حول أسمائه وصفاته،بين الذات والمرتبة،إلا أهل الله العارفون به تعالى.. أما المتكلمون قاطبة فخلطوا الأمر وحَيّروا العقل وخَبطوا خبط عشواء في ليلة ظلماء،فوقعوا في المطبات والتناقضات،وكفّر بعضهم بعضاً،وأساءوا الأدب في جناب الحق تعالى.     الحق تعالى،من حيث ذاته ،لا خبر عنها ولا وصف ولا إسم ولا حُكم ولا رَسم. فهو تعالى غنى عن العالمين.المُخبر عنها صامت، والناظر باهت.. أما من حيث مرتبة الألوهية،وهي الحقيقة المُسماة ب”الله”،ومع وحدتها فهي ظاهرة وتَظهر بما لا نهاية له من التجليات،ولها في كل صورة وجه خاص. فهي واحدة بحقيقتها،كثيرة بتعيّناتها..والحق تعالى إنما أمر عباده بمعرفة المرتبة رئيسة، والصفات و هي الألوهية،وما أمرهم بمعرفة ذاته التي هي الغيب المطلق والوجود البحت،بل نهاهم عن طلب ذلك.  قال تعالى: (ويُحذّركم الله نفسه)،وقال صلى الله عليه وسلم: (تفكّروا في آلاء الله ولا تتفكروا في ذاته)..                                        قال الله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله).فما أمر الله تعالى إلا بمعرفة الألوهية التي هي مرتبة الذات وظهور الصفات،لأن الأثر ليس إلا للصفات.. ومعرفة الأثَر توصِل إلى معرفة المُؤثّر.. فالذات ــ من حيث هو هو ــ لا يُدرك حِسّاً ولا عقلاً ولا كَشفاً،بخلافها من مرتبة الألوهية،فإنها تُدرك حسّاً وعقلاً وكشفاً.. 

   فالعلم بالله عزيز عن إدراك العقل والنفس،إلا من حيث إنه “موجود” تعالى وتقدّس. وكل ما يتلفّظ به في حق المخلوقات أو يتوهّم في المركبات وغيرها،فالله سبحانه ــ في نَظر العقل السّليم،من حيث فكره وعصمته ــ بخلاف ذلك،لا يجوز عليه ذلك التوهّم،ولا يجري عليه ذلك اللفظ عقلاً،من الوجه الذي تَقبله المخلوقات. وإن أطلق عليه تعالى فعلى وَجه التّقريب على الأفهام،لثُبوت الوجود عند السّامع،لا لثبوت الحقيقة التي هو الحق عليها،فإن الله تعالى: (ليس كمثله شيء).

  يقول الشيخ الأكبر: [ فلما استحال العلم بالله عقلاً،وَجب علينا العلم به تعالى شرعاً،من أجل قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فاعلم أنه لا إله إلا الله)،أي: إعلم بي من إخباري المُوافق لنَظرك ليصحّ لك الإيمان علماً.. فنحن نعلم أنه تعالى موجود،واحد في ألوهَته. وهذا هو العلم الذي طَلب منّا،غير عالمين بحقيقة ذاته التي يعرف سبحانه نفسه عليها. وهذا هو “العلم بعدم العلم” الذي طلب منا.. فما يجب علينا هو “علم العلم” أولاً..].     ويقول أيضاً: [ كل علم يوصلك إلى حيث مُتَعلّقه،والشّغف من العالِم بالمُتَعلّق لا بالعلم. ولهذا فالعلم بالذات الإلهية لايَصح أصلاً،لأنه لايوصلك إليها لعزّتها،وإنما الوصول إلى معرفة الأسماء والصفات الإلهية. فالتوحيد هو المطلوب من كل موجود،ونهانا الشارع أن نَتفكّر في ذات الله..فلن نصل إلى المعرفة به سبحانه إلا بالعجز عن معرفته،فليس له مثل،ولا يُتَصوّر في الذّهن ولا يُدْرَك،فكيف يَضْبطه العقل؟هذا ما لايَجوز،مع ثبوت العلم بوجوده،فنحن نعلم أنه موجود،واحد في ألوهيته،وهذا هو العلم الذي طَلَب منا..فالحق تعالى هو الموصوف بالوجود المطلق،لأنه سبحانه ليس مَعْلولاً لشيءولا علة لشيء،بل هو موجود بذاته. والعلم به عبارة عن العلم بوجوده،ووجوده ليس غير ذاته مع أنه غير معلوم الذات،لكن يعلم ما يُنْسَب إليه من صفات الكمال. وأما العلم بحقيقة الذات فممنوع،فلاتُعلم بدليل ولابرهان عقلي،ولا يأخذها حَدّ.فغناه سبحانه لايُشْبه شيئاً،ولا يشبهه شيء،فكيف يَعْرِف من يُشبه الأشياء من لايُشبهُه شيء،ولايشبه شيئاً.. ].   

  ويقول أيضاً: [ العلم بذات الحق مُحال حُصوله لغير الله، والإنسان المُدْرك لا يعرف إلا ما يُشابهه ويُشاكله،والباري تعالى لا يُشبه شيئاً ولا هو في شيء مثله،فلا يُعرف أبداً. فلا يعرفه أحد من نفسه وفكره..فاعلم أن الكون لا تعلّق له بعلم الذات أصلاً،وإنما مُتعلّقه العلم بالمرتبة وهو مُسمى (الله). الذات مجهولة العين والكيف،وعندنا لا خلاف في أنها لا تُعلم،بل يُطلق عليها نُعوت تنزيه. ].                    ويقول أيضاً: [ فالذات الالهية في أحديتها لا وَصْف لها ولا رَسْم، فهي في عَماء،حيث كان الله قبل أن يخلق الخلق،كما ورد في الحديث.بمعنى أنه في الكلام عن الصفات يجب الإشارة إلى أن الذات الإلهية لم تكن موصوفة و لا مُسمّاة،فهي في أزل لا أول له. بينما وصف الذات بأسماء وصفات،ولو أنها قديمة وأزلية،إلا أن ثنائية الصفة والموصوف من جهة يوجب لها بداية،وتعلق الصفة  وتحققها في الوجود من جهة أخرى يوجب لها بداية كذلك.. ].هذا التعلّق هو الذي عبّر عنه إبن عربي ب “الإثْنَينيّة”،عندما قال: [ إذ لا تعقل  النّسْبة إلا باعتبار الإثنينية ].. 

 ويقول أيضاً في فتوحاته: [ (مسألة: الذات والألوهة): وكل ما يستقلّ العقل بإدراكه،عندنا،يُمكن أن يتقدّم العلم به على شُهوده. وذات الحق تعالى بائنة عن هذا الحُكم،فإن شُهودها يتقدّم على العلم بها،بل تُشْهَد ولا تُعْلَم. كما أن الألوهة تُعْلَم ولا تُشْهَد،والذات تُقابلها.. والمَقول عليه،كما ورد في الخبر: (كان الله ولا شيء معه) إنما هو الألوهة لا الذات. وكل حكم يثبُت،في باب العلم الإلهي، للذات إنما هو للألوهة. والألوهية: “نِسَب وإضافات وسُلوب”،فالكثرة في النّسب (التي هي من أحكام الألوهية)،لا في العَيْن (التي هي الذات). وهنا زَلّت أقدام مَن شَرّك بين مَن يَقبل التّشبيه (وهي الألوهية) وبين من لا يَقبلُه (وهي الذات)،عند كلامهم في الصفات..وإنما أوجَد تعالى العالَم ليُظهر سُلطان الأسماء الإلهية: فإن قُدرة بلا مَقدور، ووجُوداً بلا عَطاء،ورازقاً بلا مَرزوق،ومُغيثاً بلا مُغاث،ورَحيماً بلا مرحوم ــ حَقائق مُعطّلة التّأثير..].. فالكثرة الحاصلة في الأسماء الإلهية ،كَثرة معقولة،فإنها نِسَب وإضافات وإعتبارات.فتكون “الكثرة في التجلّي الإلهي في الصور”،من كل ما يُطلق عليه إسم صورة،كثرة مشهودة في عين واحدة مرئية،بعين الحسّ والخيال والعقل،والحق من وراء ذلك كله من حيث الذات. 

 فما يُسمّيه المتكلمون “صفة”،يُسميه أهل الله “نِسْبة”،حيث لم يَرد لفظ الصفة في حقه تعالى،بل نَزّه تعالى نفسه عن الصفة..والنّسَب كلّها أمور إعتبارية،لا موجودة ولا معدومة،فوجودها إنما هو في إعتبار المُعْتَبر ما دام مُعتبراً،وفي عقل المُتعقّل،كسائر الأمور المَصدريّة. فهي مثل الصورة الظاهرة في المرآة والمُتوجّه على المرآة،ما ظهرت الصورة في المرآة، والصورة خيال لا حقيقة لها،وإنما نَسبنا الوجود للصورة مجازاً،لكونها ما ظهرت إلا بتوجّه المُتوَجّه على المرآة، وهو الوجود.. 

 يقول الشيخ عبد الكريم الجيلي:[ إعلم أن مطلق الذات هو الأمر الذي تستند عليه الأسماء والصفات في تَعيّنها لا في وُجودها، فكل إسم أو صفة إسْتَند إلى شيء، فذلك الشئ هو الذات. ]. فبالنسبة للجيلي: الأحدية ذات،والألوهية ذات،والقرآن ذات،والحقيقة المحمدية ذات.. ويُضيف:[ المُتَكلّم في ذات الله صامت،والمتحرك ساكن،والناظر باهت. لأن الشيء إنما يفهم بما يُناسبه فيطابقه أو بما يُنافيه فيُضادّه،وليس لذاته في الوجود مُناسب ولا مطابق ولا مناف ولا مضاد. وقد مَنَع أهل الله التّجلّي بالأحدية فضلاً عن الذات..أما ذات الله فهي عبارة عن نفسه، وهي غيب لا تُدْرك بمفهوم عبارة،ولا تُفْهم بمعلوم إشارة ]. وكما يظهر في هذا النص للجيلي،فقد أجمع العارفون بأن “الأحدية” ــ وهي أول مرتبة وجودية ــ لا تجلّي بها على الإطلاق،ولا تعرف أحداً ولا تَقبله،فهي حضرة سحقية مَحقية، وليس لها مُقتضى في الكون إطلاقاً،حتى الأسماء الإلهية فهي موجودة فيها بحُكم البُطون لا بحكم الظهور،والأسماء الإلهية حُجُب للذات الأحدية.. فبالأحرى الذات الإلهية..

ولهذا يُميّز الشيخ الأكبر بين الذات الإلهية في أحديتها وبين الألوهية في تجلياتها وطلبها للمألوه. ففي مرتبة الألوهية خرجت الأسماء والصفات الإلهية من بُطونها،وطَلبت أن تُعرف وتَظهر في الموجودات،علماً وقُدرة ورزقاً وكلاماً،وهذا يقتضي وجود “أعيان ثابتة” تَسمع الأمر الإلهي وتمتثل له..  

  يقول أستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله،في تحقيقه العرفاني: [ “الذات” هي المُسماة في إصطلاح ساداتنا ب “الأحدية”. فالأحدية ذات لأنها أول مرتبة وجودية،ومن مُقتضاها “الفيضة القرءانية،ونور النبوة”. والألوهية ذات،لأن تحت حُكْمها جميع الأسماء الإلهية والتى بها التّجلّي. والقرآن ذات،لأن الكون كله يرجع إليه. والحقيقة المحمدية ذات،لأنها الجامعة لجميع الحقائق،وهي صاحبة الرحمة في الكون الإلهي،والتجليات تحتاج إليها في الظهور. والذات الإلهية لا يَصْلُح في حَقّها سوى صفات السّلْب،أما الأوصاف الثّبوتية فتُشَبّهها بالمخلوقات. فالصفات الثّبوتية تتعلّق بمرتبة الألوهية.. ]. 

 يقول الشيخ محمد الكتاني:[ ولا مِرْية أن “الذات الأقْدَس”،من حيث هي،بقطع النظر عن النّسَب والإضافات،هي حضرة بَهْتية،فلا تُعْقَل للبشر،فلا يمكن أن يُدَلّ عليها بلفظ.. فالذي نقول: أن ماهية الحق غير معقولة للبشر،فأحْرَى دَرْكُها،فأحرى الإطّلاع على الكُنْه..وقد أقمت الدليل في (الرّقائق الغزلية) على أن ماهية التعيّن الأول(العقل الفيّاض) لا سبيل لدرك إدراكه في عالم الجنة،فأحرى في البرزخ،فأحرى في عالم التّقييد،فافهم وتدبّر وإياك والعطب.. ]. 

           فالحق تعالى ما عَرفه من عرفه،إلا في مراتب التّقييد والظّهور والتعيّن. وجميع المخلوقات والأسباب والوَسائط،مَظاهره وتَعيّناته ونِسَبه وإعتباراته،فإنها آثار أسمائه وصفاته..  فالكون لا تعلّق له بعلم الذات أصلاً،وإنمامُتعلّقه العلم بالمرتبة،وهو المُسمى “الله”.. ولا خلاف بين العارفين أن الذات لا تُعلَم،بل يُطلق عليها نُعوت التنزيه،والأزل الذي يُطلق لوجودها إنما هي أسماء تدلّ على سُلوب،من نَفي الأولية وما يليق بالحُدوث.

يقول الشيخ الأكبر: [وهذا يُخالفنا فيه جماعة من المتكلمين الأشاعرة، ويتخيّلون أنهم قد عَلموا من الحق صفة نفسية ثُبوتية، وهيهات أنّى لهم بذلك؟.. وأخذت طائفة ممّن شاهدناهم من المتكلمين على أبي سعيد الخراز وأبي حامد وأمثالهما،في قولهم: “لا يعرف الله إلا الله”..]. فليس للحق تعالى صفة نفسية ثبوتية إلا واحدة،لا يجوز أن يكون له إثنتان فصاعداً،إذ لو كان لكانت ذاته مركّبة منهما أو منهم، والتركيب في حقه تعالى مُحال. .انتهى.             فعلاقة المخلوقات مع التجليات الإلهية.. وقد قسّم أهل الله،كالشيخ الأكبر، التجلّي الإلهي إلى مطلق ومقيّد: فتجلّي الإطلاق هو ما أشعر بعَدم المخلوقات،وهو ما يسميه العارفون بالفيض الأقدس.. وتجلّي التّقييد هو كل ما أشعر بوجود الخلق مع الرب تعالى،وهو ما يسميه العارفون بالفيض المُقدّس. فهو تجليه في الأسماء الإلهية التي تطلب المخلوقات وتطلبها المخلوقات،وفي هذه المرتبة وهذا التجلي يُشهد الحق ويُحسّ ويُعلم. والحق تعالى،منذ خلق الخلق،ما تجلّى إلا في مرتبة التقييد،في عين الاطلاق.. 

قال الله تعالى: (شَهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط). هذه شهادة علم،لا شهادة شُهود ورؤية. فإنها شهادة بالألوهَة،والألوهة تُعلم ولا تُشهد،فإنها مرتبة للذات،والمراتب أمور معقولة،والمشهود آثارها. فالألوهة مشهودة الأثر،مفقودة في النظر. تُعلم حُكماً ولا تُرى رَسماً. فإن العلم يقتضي الإحاطة بالشيء من جميع جهاته. وكلام العارفين في هذه المسألة لاينحصر،فنكتفي بما ورد.. ومن أراد الإستزادة والتعمّق فعليه بكتب الشيخ الأكبر محيي الدين إبن عربي والشيخ عبد الكريم الجيلي والشيخ الأمير الجزائري في كتاب القيّم (المواقف الإلهية)..

 __ورد في الخبر: (إن لله سبعين حجاباً من نور وظلمة،لو كشفها لأحرقت سُبحات وجهه ما أدركه بَصره من خَلقه)،وفي الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري) الحديث..   ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحجاب الأعظم الذي لا يرتفع دنيا وآخرة،وهو الرداء والإزاء.. فلا تقع الرؤية إلا على حقيقة مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم،لأنها إرتدت وتحلّت بجميع الأسماء الإلهية،حتى إسم الجلالة “الله”: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله).. فأظهرت هذه الحُلَل النبوة المحمدية بصفات الربوبية (من رآني فقد رأى الحق)،رؤية حقيقية،فلا مغايرة إلا بالإعتبارات العدمية،كالإطلاق والتقييد،ومن هنا قال بعض الأكابر: [الوجود الحق تعالى ظهر في الحقيقة المحمدية بذاته،وظهر في سائر المخلوقات بصفاته] ومعنى العبارة أن الحقيقة المحمدية ظهرت بالتجلي الذاتي،موصوفة بجميع صفات الحق تعالى ونسبه الإلهية والكونية،وفوّض إليها تدبير كل شيء يوجد بعدها.. فمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أمر الله والكلمة الجامعة الكُلية،وهو الظاهر وهو الشهادة،وهو بكل شيء مُحيط. وهو ما يُسميه أهل الله “الوجود المُفاض على المُكونات”،له السريان في كل ذرات الوجود،وهو المُعرّف الخلق بخالقهم والمربّيهم والمُمدّ لهم..   

   هذه الصفة الربوبية لمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم  خوّلت له الخلافة الكلية في المملكة الإلهية،ولولاحجابيته لإنعدم الوجود وأهلكته التجليات الإلهية.. فهو الرحمة العامة المُهداة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)،قبل الوجود العيني وبعده،دنيا وآخرة.. وقد عمّت هذه الرحمة حتى أسماء الحق تعالى،من حيث ظهور آثارها ومقتضياتها بوجود هذه الرحمة..  فمعرفة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هي معرفة الحق عز وجل، فما ذكر الله تعالى نفسه إلا وذكر معه مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا إله إلا الله محمد رسول الله)،بدون فاصل (الله محمد).. فسمّاه العارفون “الحق المخلوق به” و”حقيقة الحقائق”، فهو الظاهر في المظاهر،والمشهود لأصحاب وحدة الشهود (أينما تولوا فثمّ وجه الله)..فالغنى المطلق لله تعالى إقتضى أن يكون وسيط برزخي بينه وبين خلقه،فللنبوة المحمدية المراقبة لسَيْر المُلك الإلهي وفْق الإرادة الإلهية..    

   ومصطلح “وجوه الحق” يقصد به أهل الله أسماؤه تعالى ونِسَبه،وسُميت نسباً من حيث أنها لا موجودة ولا معدومة.. وسُميت وجوهاً من حيث أن ظهور الحق،لمن ظَهر له،لا يكون إلا بها. ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحق الجامع لوجوهه (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله…. أينما تولوا فثمّ وجه الله)..

  ورد في الخبر: (من عرف نفسه عرف ربه): فكل نفس قائمة بسريان الحقيقة المحمدية فيها،فهي المُمدّة والموصلة للقسمة الإلهية لكل شيء (الله المُعطي،وإنما أنا قاسم) ومن قَسم لك فقد أعطاك.. فتعرف ربها على قدر معرفتها بمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فلا دخول إلا من بابه،ولا تجلّ إلا منه، ولا عروج إلا فيه (به ومنه وإليه).. فهو فاتحة الخلق بفتق ظلمة العدم،وهوسدرة منتهى الجميع.. قال الله تعالى: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين). فالآية،من جهة الإشارة،تُشير إلى الحديث (من عرف نفسه عرف ربه). فهي المُسماة بالبرزخ وبالصورة الرحمانية وبمرتبة الأسماء والصفات،وغير ذلك من الأسماء بحسب ما لها من الوجوه والإعتبارات.. وهو ما تقدّم في تحقيق أستاذنا حفظه الله بأن الأحدية ذات،والألوهية ذات،والحقيقة المحمدية ذات..وأما الذات العَليّة عَيْنُها،فهي غنيّة عن العالمين،لا تتعلّق بها عبادة عابد ولا معرفة عارف،ولا تُعطي ولا تَمنع،ولا تضُرّ ولا تَنفع،ولا تطلُب مخلوقاً ولا مربوباً ولا عابداً ولا عارفاً..  

 قال بعض العارفين أن الله تعالى لما أوجد حقيقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،قال له: [أعطيتُك أسمائي وصفاتي،فمن رآك رآني،ومن عَلمك عَلمني،ومن جَهلك جهلني. غاية من دونَك أن يَصلوا إلى معرفة نفوسهم منك،وغاية معرفتهم بكَ العلم بوجودك،لا بكيفيّتك. وكذلك أنت مَعي،لا تعرفني إلا من حيث الوجود]. 

 ولا بد من الإشارة إلى أن إسم الجلالة (الله)،اختلف حوله العلماء بين كونه مُشتقاً ومُرتجلاً. فمن قال إنه عَلم مُرتجل،لا صفة ولا مُشتقّ من شيء،فهو عَلم على الذات الذي لا يوصَف ولا يُعلَم ولا يُحدّ ولا يُرسَم،فالأمر الإلهي ما ورد إلا بعبادة الصّفة للصّفة،وهي عبادة المربوب لربّه والمألوه لإلهه.. وأما من قال في إسم الله إنه صفة أو مُشتقّ من كذا وكذا،فقد جعله لمرتبة الألوهية. __ قال الله تعالى: (قالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة). ملخّص مَبحث “رؤية الحق تعالى” عند أهل الله،يندرج في مفهوم “الحقّ الإعتقادي”،وهو الحق المخلوق الذي هو من أسماء النبوة المحمدية. فإنه ما عبد عابد إلا ما اعتقده،وما اعتقد إلا ما أوجده في نفسه.. فلا يَشهد القلب والعَين إلا صورة مُعتقده في الحق،وهو الذي وَسع القلب صورته،وهو الذي يتجلّى له فيعرفه.. فلا يرى الرّائي في التجلّي إلا منزلته ورُتبته،فما رأى إلا نفسه وإستعداده.. ولذا كان علمُنا بالله تعالى شعوراً فقط،والشعور علم إجمالي يُعطي أن ثَمّ مَشعوراً به،ولكن لا تعلم ما هو؟.. 

    فإنكار الحق تعالى على من سأل الرؤية،هو من حيث طلبهم رؤية الحق المطلق الغني عن العالمين،وهذامُحال،لأن الرؤية لا تقع إلا على الحق الإعتقادي المقيّد بالمظاهر والصور،وهو ما يُعبر عنه أهل الله بأن الرؤية في غير تعيّن مُحال.. والرؤية إنما تقع على الحجاب الأعظم،فما رأى العارفون إلا الوجهة الحقية لمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم،فهي مرتبة ظهور الحق تعالى،ومنها تفرّعت جميع الظهورات..    

 يقول الشيخ الأكبر: [الرؤية: هي المُشاهدة بالبصر لا بالبصيرة حيث كان ــ أي في الدنيا والآخرة ــ وهي لأصحاب النّعت]،ويقول أيضاً: [رؤية القلوب على قدر صفائها ونورها،ورؤية الأبصار على مقدار قلوبها. فالبصر أتمّ،ولهذا كان الغاية رؤية البصر. بالبصيرة ترى الحق في الدنيا،وبالبصر تراه في الآخرة..]..                                          ويقول الكلاباذي: [ وأجمعوا أنه تعالى لا يُرى في الدنيا بالأبصار ولا بالقلوب إلا من جهة الإيقان.. وأجمعوا على أن الله تعالى يُرى بالأبصار في الآخرة،وأنه يراه المؤمنون دون الكافرون..].  

  يقول القاشاني: [الرؤية يعنون بها المشاهدة بالبصر لابالبصيرة.. فإن أهل الطريق يُثبتون الرؤية بالعين،لا بالقلب فقط،في الآخرة من غير خلاف بين أهل الحق. والخلاف حاصل في جواز رؤيته تعالى بالبصر في الدنيا..].                                                              يقول الأمير الجزائري: [الرؤية البصرية في الآخرة تابعة للعلم،فكل من كان علمه في الدنيا أتمّ كانت رؤيته في الآخرة أوسع]. والشيخ الأكبر على خلاف ذلك،يقول: [لو كانت الرؤية نتيجة العلم لكانت كَسباً،والرؤية من عين المنّة الأولى والجود المطلق].          وقد فرّق أهل الله بين الرؤية والمشاهدة،ومُلخّص ما جاء في المسألة ما قاله الأمير الجزائري: [.. إذا كان المُتجَلّى له،ممّن عَرف الحق تعالى بالإطلاق،فهو لا يحكُم عليه بصورة خاصة،فهو لهذا لا يُنكر الحق تعالى في أي صورة تجلّى له. فهذه الحالة تُسمى “رؤية”،ولا يكون فيها إقرار ولا إنكار،ولا يُشترط فيها تقدّم علم خاص بالمُتجلّي.. و”المشاهدة” يَقع فيها إقرار وإنكار،لشرط تقدّم علم بالمَشهود.. فكل مُشاهدة رؤية،ولهذا قال بعض العارفين: (الحق يَشهده كل أحد،ولا يراه إلا القليل)..].. فبنو إسرائيل طلبوا الرؤية البصرية (جَهرة) في الدنيا،وهومُحال،على ما تقرّر عند أهل الله وعلماء الكلام قاطبة.. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد نبي الله،وعلى الزهراء بضعة رسول الله.

شرحه الاستاذ  رشيد موعشي غفر الله له ولوالديه

310 : عدد الزوار